د. دورين نصر
د. دورين نصر
قصيدة النثر: بين هويّة النوع ودهشة التجاوز
سنتناول في هذه الورقة الحديث عن “قصيدة النثر”، إذ تُعتبر مسألة شائكة وخلافيّة في الشّعر العربي الحديث بسبب صعوبة تحديد القوانين التي تخضع لها. لذا، لا يتعلّق الموضوع بدراسة هذه القصيدة انطلاقًا من تعاريف أو مبادئ مسبقة، كون هذه الأخيرة قليلة الوضوح، ويمكن أن تخضع لمفهمومات متنوّعة
في الواقع، إنّ التغيير الذي طرأ على بنية الذّهن العربيّ في منتصف القرن الماضي أدّى إلى إدراك الشّعراء الحديثين أنّ إشكاليّة الشّعر هي في صميم بنية الوعي، خصوصًا أنّ عبء التغيير وهمومه تقع بجزئها الأكبر على عاتق الشّعراء. فالشّعر الحديث عندنا يحمل همومًا وجوديّة، ويعبّر عن “مأساة الإنسان الكبرى، وعن معضلاته الكيانيّة وينصرف عن الوجود الجزئي إلى الوجود الكلّي”( ). لذلك لا بدّ أن يتوافر في الحداثة الشعريّة الوعي الكامل للموروث القوميّ، خصوصًا ما يتناول الشّعر والبنية الثقافيّة.
ولعلّ التغيير في بناء النّصّ الشّعري صنعته الحداثة الغربيّة، ووضعت له سُبلاً جديدةً في ظلّ الرّهان الإبداعيّ. وقد أدركت ثقافتُنا الأدبيّة المعاصرة حاجتها إلى تجسيد الفكر الجديد، ليتماشى مع الكتابة الرّاهنة، فالتغيير بات إذًا ضرورة حتميّة للخروج عن نمط آليات الكتابة القديمة، ما أدّى إلى ظهور قصيدة النثر التي حظيت بحضور لافت منذ خمسينيّات القرن الماضي، وغيّرت من منطلقات القصيدة من حيث البناء والقيم الجماليّة. إذ تؤكّد نازك الملائكة: “إنّ من يبدأون حركات التّجديد في الأمّة ويخلقون الأنماط الجديدة، إنّما يفعلون ذلك تلبيةً لحاجاتهم الروحيّة”( ). فحصل خروج من الثبات إلى التحوّل، “وقد جعل يوسف الخال بين التجربة الذاتيّة والتجربة الحياتيّة والكيانيّة أهمّ أسس الشّعر الحديث”( ). إنّها تجارب يعانيها الشّاعر في “نفسه وأمّته وحضارته”( ) على حدّ قول أدونيس.
فشكّلت قصيدة النثر بالتالي واقعًا أدبيًّا جديدًا، يترجم انبثاق الوعي العربي بتأثير من الحداثة الغربيّة. وبرزت الأشكال المتحرّرة من الوزن التي ظهرت باعتبارها شكلاً جديدًا أو مختلفًا عن سابقيه. فهي بما تحمل “تشكّل تحوّلاً جذريًّا في عالم الشّعر”( ). إذ مَضَت منذ نشأتها هاربة من الشّعر” إلى “النثر”، ومن التراكيب البلاغيّة والقيم الدلاليّة المسطّرة، إلى مرونة الفكرة الشعريّة التي يخلقها لها النثر. فشاعر قصيدة النثر تمرّد على كيان الأشياء وقوانين اللّغة ودلالات الأفكار، رغبةً منه في صياغة حلمه من خلال تشابك الحواس مع الرؤى الداخليّة بحثًا عن “قصيدة الإشراق”
في الواقع، يعتقد الكثير أنّ شارل بودلير هو رائد قصيدة النثر في الشعريّة الغربيّة، فيؤرّخون لأوّل قصائده النثريّة بـ “قصائد ليليّة” لعام 1857 م، ولكن المتتبّع لتاريخ هذا النوع الأدبيّ، يدرك أنّ شاعرًا آخر غير بودلير هو الذي أسّس المعالم الأولى لقصيدة النثر؛ إنّه الشّاعر الفرنسي ألويزيوس برتران (Aloysius Bertrand)
فقد كتب مجموعة شعريّة واحدة بعنوان “جاسبير الليل” (Gaspard de la Nuit)، وكانت هذه المجموعة هي البداية التي انطلقت منها قصيدة النثر الفرنسيّة، وقد خصّته سوزان برنار بمبحث الريادة، في مدخل الجزء الأوّل من كتابها “قصيدة النثر من بودلير حتّى الوقت الرّاهن” واعتبرته الرّائد الأوّل لقصيدة النثر.
ونشير إلى أنّ سوزان برنار، في دراستها الرّائدة عن قصيدة النثر، أظهرت خطورة الخلط بين النّثر والشّعر، باعتبار أنّ لكلّ نوع أدبيّ خصائص مختلفة تميّزه عن الآخر، فرأت منذ البداية أنّ “مصطلح قصيدة النثر قابل لكثير من المفهومات المتنوّعة”
كما أضفت ملمحًا جدّيًا يصنع فكرة التمرّد على خصائص الشّعر بقولها: مصطلح قصيدة النثر، يشير إلى هذه الثنائيّة، إذ من يكتب بالنثر يتمرّد على التقاليد العروضيّة والأسلوبيّة، ومن يكتب قصيدة يرمي إلى خلق شكل منتظم، مغلق على نفسه، ومنفصل عن الزّمن
وبالرّغم من كثرة السّجال، فقد راهنت قصيدة النثر على مصطلحها من البداية، لتعبّر عن التّناغم والوحدة التي يمكن أن تكون بين الشّعر والنثر في الكتابة الإبداعيّة، وعن كثافة توصيفها داخل القصيدة الشعريّة: “إنّها خلق حرّ، ليس له من ضرورة أخرى غير رغبة المؤلّف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد وإيحاءات لانهائيّة
وقد أصبح مصطلح قصيدة النثر أكثر شيوعًا ووضوحًا واستعمالاً في النّصف الثّاني من القرن العشرين في ظلّ التجربة المتحوّلة والموضوعات والحالات الكثيرة التشعّب والتداخل كالغربة والقلق والتمزّق والرّفض، فصار هذا النّصّ يقدّم ذاته في حلّة مختلفة تناسب العصر وتلبّي أذواقه
والواقع أنّ قصيدة النثر كانت ترسم حالة التفكّك في القيم وكلّ ما له علاقة بالإنسان العربيّ، ولعلّ هذا ما دفع بعض النّقّاد إلى القول: “إنّ قصيدة النثر العربيّة مرتبطة بعمق بحالة الانهدام العربيّة، إذ إنّ الذات التي تنتجها هي ذات طلليّة بامتياز، وهي ذات ولّدتها الهزيمة. لقد ولدت (قصيدة النثر) بعد نكبة 1948.. وانسحبت مع صعوبة حالة المقاومة والمدّ القومي (…)( ). لهذا لا يمكن مقاربة قصيدة النثر من دون النّظر إلى التجربة التي ولّدتها ومختلف الظّروف التي رسمت ملامحها على جميع المستويات البنائيّة أو الموضوعاتيّة كاللّغة والإيقاع والتجربة. وتُعدّ هذه المسائل أكثر ما ناقشته مجلّة “شعر” التي كان الشّعر السّائد قبلها أسير النّظام الخليليّ.
وفي الواقع، لا يجد الباحث العربيّ، قبل العقد الأخير من القرن المنصرم، أيّ مرجع يعود إليه ليتبيّن خصائص هذه القصيدة أو لنقدها. قد نقع على كتب أو أقوال أو مقاولات أو على مختصرات نقديّة تعود في الغالب إلى كتاب سوزان برنار: “قصيدة النثر من بودلير حتّى الوقت الرّاهن”، التي تُظهر من خلاله قصيدة النثر كقوّة فوضويّة، هدّامة، تجنح إلى انكسار الأشكال القائمة، وفي الوقت عينه كقوّة بنّاءة تهدف إلى تأـسيس شعريّة كليّة.
ولو انتقل الدّارس إلى التدقيق في عدّة التحليل العربيّة، التي وظّفت لدرس هذه القصيدة الجديدة، لوجد أنّها مستقاة، من ثلاث صفات وجدتها برنار فيها، وهي الإيجاز والوحدة العضويّة والمجّانيّة
– الإيجاز: إذ تبتعد قصيدة النثر عن الاستطراد في الوعظ الخلقي، ما يشير إلى كثافة بناء المعنى بالنّحو؛ فهي ليست إيضاحيّة كالقصيدة القديمة وليست مرسلة كالنثر.
– الوحدة العضويّة: قصيدة النثر بناء تتلقّاه إرادة واعية، وليس مجرّد مادّة متراكمة. إنّها كلّ غير قابل للتجزّؤ أو الحذف أو التقديم أو التأخير بين مكوّناته. إذ يجب “أن تكون القصيدة وحدة واحدة، وعالمًا مغلقًا، خشية أن تفقد صفتها كقصيدة”
– المجانيّة: أي شكل جديد مستقلّ وفريد لا علاقة له بكلّ أشكال الكتابة المعروفة من نثرٍ وشعرٍ ورواية، ومسرحيّة. فلا غاية له خارج عالمه المغلق. بالتالي فكرة المجانيّة يمكن أن تحدّدها فكرة الّلازمنيّة( ). وهذا ما يمكن الذهاب به إلى فكر إيمانيول كنت (Emmanuel Kant) ( ) الجمالي، حيث جعل للعمل الفنّي “غنائيّة” تتحدّد فيه، لا في خارجه
يتبيّن لنا من خلال الخصائص التي قدّمتها سوزان برنار: أنّها وضعت نوعًا من الحدود لقصيدة النثر. ورغم ما تقدّم من سمات، فقد تكون بمثابة الإطار لهذه القصيدة، إلاّ أنّها تظلّ غير خاضعة لنموذج ولا لخصائص ثابتة، إذ انبنت وفق توجّهات شعريّة وجماليّة متباينة، ما فتحها على احتمالات عديدة.
إضافةً إلى الخصائص التي ذكرناها سابقًا، يُجمع شعراء قصيدة النثر على رفض موسيقى الشّعر الخارجيّة، فلا يتحدّثون عن موسيقى داخليّة خاصّة بكلّ قصيدة، لكنّهم يختلفون حول توافر مثل هذا الإيقاع في قصيدة النثر.
فحصل تحوّل من الاهتمام بالشّكل الخارجيّ وإبرازه من النموذج التقليدي إلى إيقاع داخليّ ينبع من عمق النّصّ عبر مختلف المستويات اللّغويّة والدلاليّة البصريّة، وهو إيقاع تابع للتجربة غير منفصل عنها. بالتالي فإنّ “إمكانات التشكّل الإيقاعيّ في الشّعر مفتوحة واسعة وعديدة وغير محصورة في قوالب معيّنة كما هو الشّأن في العروض التقليدي”
وعليه، فإنّ قصيدة النثر هي تأليف يسعى إلى ردم بعض الهوّة بين الشّعر والنثر، فتقوم على هدم مستمرّ للشكل القديم أو السّابق، وبناء شكل جديد ومغاير ينسجم مع قضايا كلّ حقبة سياسيّة واجتماعيّة ووطنيّة. إنّها تجمع بين الفوضى والهندسة، بهذا يصعب الخروج بمفهوم واحد لها بين تمرّدها واختلافها وطبيعة تشكّلها. نورد في هذا السياق ما قاله د. عاطف الدرابسة عنها: “بنية ذات مضمون شعريّ لا هويّة لها”
بذلك، تصبح مفاجأة شعريّة لا يمكن توقّعها قبل ظهورها. فهي نصّ شعريّ لا يعتمد على قوانين سابقة، بل يبني قواعده من داخله. بالتالي، لا يمكن النّظر إليه بمقصد استخلاص قوانين عامّة لنمط الكتابة فيه. فالثّوابت تكاد تكون مفقودة منه. هذا ما يجعلنا أمام نصّ لا يرضى بالتّموضع في قوالب جاهزة.
يخلص البحث إلى أنّ ما ابتدأ في قصيدة النثر، وفي غيرها قبلها – أخرج القصيدة من الشعريّة القديمة والمعهودة، ومن العمود باختصار. “فما كان ينتظم في مثال يُحتكم إلى مرجعيّته الداخليّة الخاصّة به، بات يتعيّن بالتّفاعل والتأثّر بغيره، بمرجعيّات مغايرة، ما أدخل الشّعر العربيّ في عالميّة” غير نظاميّة، ولكنّها قابلة لحوارات ممكنة مع شعر الغير”
وعليه، فقصيدة النثر، ليست شكلاً أو نوعًا، وفق المفاهيم المتداولة. إنّها تنتقل بالشّعر والنثر، تحمل مكوّنات الذات وانفعالاتها وغيرهما إلى حيث لم يكونا أبدًا، ما يجعلها كبناء لغويّ وأدبيّ، مغاير وغير مستقرّ.
وعلى هذا الأساس، يجب التعامل مع قصيدة النثر على أنّها حركة تستجيب للمستقبل وتتفتّح على كلّ جماليّات انبثقت من داخل الشّعر ومن خارجه.
هذا الانفلات الجديد، يستوجب وعيًا نقديًّا جديدًا مهيَّأ للتحرّر، غير منغلق على أدوات قرائيّة جاهزة. فهل نجحت هذه القصيدة في تأطير هوس الكتابة مع المتغيّرات العصريّة؟ وهل تماشت هذه المتغيّرات مع الدّهشة التي خلقها هذا النوع الأدبيّ الجديد؟
د. دورين نصر
الملتقى الأوّل لقصيدة النثر العربيّة في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح