الفنانة التشكيلية لبنى ياسين

أراها بوضوح… حمامة بيضاء كالنقاء، تطير في سماء صافية كالحلم، تدور بعينين مدهوشتين كمن يُبصر ألوانًا لم يرها مرسومة من قبل على حدقتيه. ترفرف بجناحيها الأبيضين على وقع دقات قلبي، تبدو لي مألوفة وكأنها تحمل ملامح أعرفها جيدًا. مهلاً… إنها ملامحي، لون عيني. اخترقتها طلقة صياد مخبول فقد الجمال والحب طريقهما إلى عينيه. اسودّت السماء وفقدت صفاءها، تلبّدت الغيوم، تبعثر دم الحمامة البيضاء فوق الأرض، وتلوّن ريشها الأبيض بلون الدم القاني. اختنق هديلها في صدرها، ثم سقطت فوق بقع الدم التي رسمها دمها على الأرض.
قطرة دافئة من دمها تسقط فوق جبيني، توقظني من غيبوبة لا أعرف كم دامت. أشعر بإعياء شديد، كما لو أن الطلقة اخترقت جسدي أنا. أحاول أن أفتح عينيّ، فلا تتجاوبان مع رغبتي في الرؤية، لكنني بعد إصرار أستطيع فتحهما. يستقبلني وجه أمي، أرى دموعها الدافئة تنفلت من عينيها بغزارة يوم شتائي ممطر. أشعر بالقلق الذي يختبئ خلف نظرات منكسرة تحاول الهرب من مواجهة عينيّ. وأنتبه إلى أنني لست في المنزل. هذا البياض الذي يلفني أكثر من قدرتي على فهمه، وتلك الأنابيب الموصولة إلى أوردتي، أين أنا؟ رائحة الكحول تقتحم أنفي مفسرةً تفاصيل هذا المكان الذي يحتضن قلقًا أحسّ بنفثاته في أفق الغرفة. جسدي المتهالك فوق سرير المشفى، قدماي الثقيلتان اللتان لا أستطيع لهما حراكًا، أشعر وكأن شاحنة مرت فوقهما للتو فهشمتهما تمامًا. الألم يثقب أطراف جسدي بأنامله المدببة، ورأسي الذي أشعر بأنه صار مجوفًا تضربه مطرقة في نفس المكان وبتواتر مزعج. شيء من الغضب يرتسم على وجه أبي، يحاول مواراته خلف قبلة طبعها على جبيني وهو يخفي دمعة تتنصّل من عينه… ما الذي حدث؟
أين كتبي وأوراقي ودفاتري؟ يا إلهي، كم أضعت من الوقت وأنا نائمة هنا؟ جدولي الدراسي محكم جدًا، ليس باستطاعتي إضاعة ساعة واحدة وإلا تبعثرت أحلامي في الهواء… لمَ أنا في هذا المكان؟ ومتى جئت؟ وكيف؟
تسعفني الذاكرة بشيء من التفاصيل. جوع باغتني دون سابق إنذار، وأنا أذرع أرضية غرفتي جيئة وذهابًا، حاملة كتاب العلوم، أحفظ تفاصيل كائن ما… لم أعد أتذكر ما هو الآن. كتب متراصة أمامي عليّ أن أذاكرها تباعًا، بدءًا من الغلاف إلى نظيره. الامتحان الذي أصبح يدق على الباب بإصرار مريع. أبي الذي يريدني طبيبة… ويترك لي حرية اختيار الاختصاص الذي أرغب، طالما أنني في النهاية طبيبة.
وأمي التي لا تمانع ما يراه أبي، وتحلم بالمعطف الأبيض وهو يلفّ جسدي، والسماعة تتدلى من على صدري، فتشعر بنشوة الفرح.
ملل شديد يستبدّ بعقرب الدقائق فيتقاعس، ويبدو وكأنه تواطأ مع الضجر الذي يستعمر أدق تفاصيل وجودي. أنظر إلى الساعة فأراها متوقفة، تتداخل الكلمات أمام عينيّ، وتصبح الحروف طلاسم عصية على القراءة… فكيف على الفهم إذن؟
وأمي التي لا تمانع ما يراه أبي، وتحلم بالمعطف الأبيض وهو يلفّ جسدي، والسماعة تتدلى من على صدري، فتشعر بنشوة الفرح.
ملل شديد يستبدّ بعقرب الدقائق فيتقاعس، ويبدو وكأنه تواطأ مع الضجر الذي يستعمر أدق تفاصيل وجودي. أنظر إلى الساعة فأراها متوقفة، تتداخل الكلمات أمام عينيّ، وتصبح الحروف طلاسم عصية على القراءة… فكيف على الفهم إذن؟
أفتح باب الثلاجة، لا رغبة لي في تناول أي شيء مما أراه مرتصًا على رفوفها. الضجر يتلاعب بأعصابي، والجوع يحفر في معدتي. لا رغبة لي في تناول السمك، ولا الرز، أكره الفواكه، أكره الخضار، أكره اللحوم، أكره الفوسفور والكالسيوم، أكره كل ما في الثلاجة. لا أريد أن أغذي لا دماغي ولا جسدي، أريد أن آكل لأشعر برفاهية الطعم الذي أحب. حسنًا… رقم المطعم مثبت على الثلاجة، ها هو ذا. سأطلب فطيرتي المفضلة. أريد أن أتناولها ساخنة. ما ألذ تلك الرائحة التي تفوح فتنفتح في معدتي سراديب الشهية المستعصية منذ اقتراب الامتحان، وتكالبت عليّ فروض التغذية الصحية وكتب تتربص بعقلي.
طلبت الفطيرة بالجبن. ربع ساعة وتصل ساخنة، هكذا قال العامل. حسنًا، سأنتظر. ما أبشع الانتظار حين تكون جائعًا وضجِرًا. أدخل الحمام، أقذف وجهي بالماء علّه يخلصني من حالة القرف تلك. أعود إلى كتبي، أنظر إلى العلوم، الرياضيات، الفيزياء… أسحب كتاب النصوص، أحاول أن أطالع به قليلاً، إلا أنني لا أستطيع. أعرف أنني سأحصل على تلك العلامات اللعينة التي تؤهلني لكلية الطب، فطالما كنت متفوقة. لكن الملل يقتلني، والجوع يمزق معدتي، ورأسي بحر طافت فوق أمواجه كلمات مفككة سقطت سهواً من المواد التي درستها…
تتصل لمياء… يا الله، تظهرين في الوقت المناسب يا لمياء. تسألني: كيف حالك؟ ما أغربه من سؤال! وكيف يكون حال طالبة في الشهادة الثانوية قبيل الامتحان؟ ضجرة أنا… مختنقة، أكاد أشعر بدبيب الموت في قلبي.
تضحك لمياء قائلة: انظروا من يتكلم!
أرد: هل تعتقدين أنه لمجرد كوني متفوقة، فهذا يعني أنني أستمتع بقضاء أيامي سجينة بين تلك الصفحات اللعينة؟
يدق الباب. أتجه — وسماعة الهاتف في يدي وأنا أُكمل حديثي المتذمر — نحو الباب. أفتحه. ها هو عامل المطعم بجسده الضخم، يحمل في يده علبة كرتونية تضم فطيرتي المفضلة، ورائحتها الرائعة تفوح مستثيرة شهيتي لقضمة ساخنة أنسى فيها فوائد الفوسفور… وطعمه. أتناولها من يده، أشير له بيدي أن ينتظر في مكانه، أُردّ الباب وأدخل لإحضار النقود، وأنا أُجيب لمياء:
“أبي وأمي في العمل، وأنا وحدي في المنزل. قتلني الملل والجوع، ولم أشعر برغبة في تناول ما طبخته أمي، فطلبت فطيرة الجبن. ها هي الآن بين يدي ورائحتها تنعش القلب. أغلقي الهاتف الآن، وبعد قليل أعود للاتصال بك”.
أضع السماعة من يدي وأجلب النقود. أستدير للعودة باتجاه الباب، فإذا بي أمام جسد رجل اقتحم خلوة منزلي وأحلامي ومستقبلي وفرحي. إنه عامل المطعم الذي تبعني خلسة، وفي عينيه نظرة وضيعة تشي تمامًا بنيّته الغادرة. نظرة جائع شره أمام وجبة شهية فوجئ بها أمامه. أرمي الفطيرة والنقود من يدي، وأجري من أمامه محاولة الصراخ، يخونني صوتي، يمسك بي بقوة، كأن أضلاعي تتمزق. يغلق فمي بيده، أرفسه بقدمي وأضربه بيدي، فيضربني بوحشية، ويمزق قميصي. أشبك يدًا فوق صدري في محاولة لإخفاء ما ظهر منه، وأضربه باليد الأخرى بأصيص للورد التقطته من فوق الطاولة. يتفادى الأصيص الذي يرتطم بالأرض معتذرًا عن خذله إياي، وتتناثر شظاياه البلورية في كل مكان. يقترب مني بسرعة، أتراجع محاولة الهرب، فإذا به يضم كفه في لكمة قوية وجهها لي فسقطت قرب الطاولة. شيء ما ارتطم برأسي.
أتذكر الآن… نظرات ذئب جائع يقف على قوائمه الأربعة، وقد نبت له فراء أسود غطى جسده. صوت أنفاسه العفنة يعصف بعظام السمع في أذنيّ بقوة. آه… كنت أدرس جهاز السمع قبل أن يداهمني الجوع. آخر ما أذكره… وجه بشري مغطى بفراء أسود، وصوت أنفاس ذلك الوجه البغيض، ورائحة الفطيرة الساخنة، والفريسة المتهالكة على الأرض دون حراك.


