
الحلقة الثامنة: الفرنجي برنجي!
عن عادات البيارتة في الملبس كتب توفيق الشرتوني سنة 1927:
“أول ما لفت نظري في بيروت بعد تغيبي عنها مدة أربعة عشر عاماً تعدد الأزياء. فرأيت الناس هنا يرتدون الملابس المختلفة كالعقال والكوفية والقفطان والعمائم والسراويل والطربوش والقنباز والبرنيطة والبنطلون وما شاكل فقلت في نفسي لا شك بأن تعدد الأزياء ناتج عن تعدد المشارب. تعجبت كثيراً من كلف الناس وانشغافهم بكل شيء أجنبي من لباس وأخلاق وعادات وخصوصاً السيدات والأوانس اللواتي يحسنّ لغات الافرنج معنىً ومبنىً ولا يعرفن شيئاً من لغتهن العربية الشريفة، وطالما سمعت كلمتي “بونجور وبونسوار” على جميع الأفواه حتى صرت توّاقاً لأن أسمع في بلاد الضاد كلمة “صباح الخير” ولو من أفواه الشيوخ!.. الناس هنا يهتمون بالفخفخة والمجد الباطل ويحبون المباهاة كباراً وصغاراً ولكن بغير الحقيقة…” [الحياة في لبنان، ص 27-28].
في العام 1910 أرسلت الفيكونتس سيسيليا اف لوتنبرج ـ وهي من النساء الشهيرات في عالم الأدب ومن المستشرقين الذين يحبون سوريا والسوريين ـ رسالة إلى جبران خليل جبران قالت فيها: “أنا أحب سوريا لأنها جميلة ولجمالها خاصة معنوية تنبه في نفسي عواطف غريبة سحرية وتذكارات بعيدة لطيفة. وأحب السوريين لأنهم أذكياء وتعساء لكنني أكره من السوريين تلك الطبقة المقلِّدة التي ترتدي الملابس الغريبة وتسكن المنازل المزخرفة وتتكلم اللغات الأعجمية. أنا أكره هذه الطبقة لأنها تركت محاسن التمدن الشرقي القديم ومالت إلى المكروه من المدنية الغربية الحديثة فهي الآن بغير لون تتميز به عن طبقات البشر”.
فردّ عليها جبران برسالة مطوّلة هذا مطلعها: “هذه حقيقة جارحة يا سيدتي يسمعها المحافظون من الشرقيين فيحنون رقابهم متأسفين، ويعيها العصريون بينهم فيبتسمون. وبين أوجاع ذلك الأسف وسخرية هذا الابتسام تقف سوريا الآن وقوفَ حائر ضائع في ملتقى السّبل. أما أنا فلا أتأسف جزعاً عندما أرى رقعةً جديدة قذرة في ثوب سوريا القديم، ولا ابتسم فرحاً عندما أجد السوري جسداً جديداً لروح عتيقة. أنا أنظر إلى سوريا نظرة الإبن الشفوق إلى أمّه المريضة بعلّتين هائلتين: علّة التقليد وعلّة التقاليد. التقاليد يا سيدتي تجعل المرء كالأعمى السائر في نور النهار، والتقليد يجعله كالبصير السائر في ظلمة الليل. وما الفرق بين الرجلين سوى أن نفس الأول تحيط بالظلام ونفس الثاني محاطة بالظلام.” [جريدة الحارس، العدد 3، 5 تشرين الثاني 1910].
يتبع…
________
الصورة: فرنجي برنجي في جادة الإفرنسيين بمحلة الزيتونة البيروتية مطلع خمسينيات القرن الماضي.
مجموعة Willem van de Poll. الأرشيف الوطني لمدينة لاهاي