
“في الحارة القديمة… لم يكن أحد يحتاج إلى ساعة. يكفي أن ترى جارتك تفتح شباكها، أو تسمع بائع الخضار ينادي، لتعرف أن النهار بدأ.”
- بهذه العبارات يبدأ كثيرون استذكار الحارة في “الزمن الجميل“.. تلك البقعة التي امتزجت فيها الألفة بالتفاصيل الصغيرة، حيث كانت البيوت متقاربة، والقلوب أيضًا. وكانت العلاقات لا تحتاج وسائط رقمية، ولا كلمات مرور. لكن… هل كانت الحارة فعلاً “فردوسًا” اجتماعيًا؟
هل كانت رمزًا خالصًا للدفء، أم أنها أيضاً كانت مسرحًا للرقابة، وتضييق الهوامش، وكتم الأنفاس الفردية باسم “الجماعة”؟
-دفءٌ بلا جدران… لكنه أحيانًا يخنق:
لا شك أن الحارة القديمة امتازت بشبكة أمان اجتماعية: الجيران يتفقدون بعضهم بعضا. الأطفال يلعبون في أزقتها دون خوف، والمسؤولية كانت موزعة كأنها نَفَس يومي. لكن هذا الدفء لم يكن بلا ثمن.
-الخصوصية كانت عملة نادرة:
أي اختلاف يُراقَب، ويُسأل عنه، بل يُعاقَب أحيانًا. المظهر، والسلوك، واللهجة، وحتى الأحلام…كلها خاضعة لفحص العيون الممدودة من الشرفات، والألسن التي لا تتعب.
في زمن كانت فيه الأسرة والمجتمع “سلطتين متداخلتين”، كان الانحراف عن السائد يُترجم إلى “عيب”، وقد يتطور إلى وصمة عار لا يمحوها إلا السفر… أو الصمت.
-الدراما التي أساءت للحارة أكثر مما مجّدتها:
وما زاد الطين بلّة في الوعي الجمعي العربي، هو ذلك النموذج الدرامي المضلل الذي تبنّته مسلسلات “البيئة الشامية”، وأشهرها مسلسل “باب الحارة”. في هذه المسلسلات، تم تقديم الحارة على أنها عالم مغلق فاضل: رجال شجعان يغارون على العرض، ونساء طاهرات منزويات، وأخلاق صارمة تشبه قوانين “القبيلة”.
لكن الحقيقة أن هذه الصورة مختلقة، تمّ تشكيلها بذهنيات سطحية، لا تملك أدوات قراءة التاريخ أو تنويعاته، فجعلت من الحارة مجرّد “كليشيه” رجوليّ محافظ،
أقصى ما يفعله هو أن “يثأر لشرفه”، دون أن يظهر فيه مثقف أو فنان أو عامل تغيير. بهذا، تحولت الحارة من حقلٍ اجتماعيّ حيّ إلى صورة دعائية مبتذلة،
تُرضي شوق المتلقّي، لكنها تُفرغ المفهوم من كل نضج وتنوع.
-ماذا عن حارتنا اليوم؟
قد تكون حارات اليوم بلا نداءات الباعة، ولا زيارات مفاجئة، لكنها تعيش درجة أعلى من التنوّع، والانفتاح، والقبول بالآخر.
في الحيّ العصري، قد لا يعرف الجار جاره، لكنه أيضًا لا يراقبه، ولا يحاكمه، ولا يُملي عليه نمط حياته.
اليوم، الخصوصية أصبحت حقًا، والحرية الفردية ليست تهمة، و”العيب” لم يعد يُقرَّر جماعيًا، بل يُساءَل نقديًا.
هل هذا يعني أن حاضرنا أجمل؟ ليس بالضرورة…لكنّه بالتأكيد أكثر تعقيدًا، وأقل تزويرًا.
-الحارة التي كانت… والحارة التي ستكون:
في الزمن الجميل، كانت الحارة تحضن وتخنق. وفي زمننا، صارت الحارة تفكّك وتمنح فرصًا. ربما بعد خمسين عامًا، سيقول أولادنا: آه، كانت أيام الحيّ السكني، والمقاهي المضيئة، واللقاء في المنتزه، زمنًا جميلاً.”
ليس لأننا نعيشه الآن، بل لأن كل زمن يصنع جماله من الناس، لا من الجدران.
-خاتمة: نحو توازن صادق:
لن ننحاز للماضي، ولن نبالغ في تمجيد الحارة.
لكننا سنظل نبحث عن تلك النقطة المشتركة بين الأصالة والحرية، بين القرب الإنساني والحق في الانفراد.