بقلم عبدالوهاب بيراني
بعض الدفء يجري رغم الصقيع و الملل، حيث المهاجرون مشدوهين بمنظر البحيرات و الطيور التي تلتقط السمك كوجبة شهية، و رائحة الحطب المحروق لازالت تزكم انوفهم، هكذا تبدأ الكاتبة إخلاص فرنسيس كتابة المكان في نصها القصصي صقيع الغربة، حيث المنحدرات التي تستقر عليها البيوت الصامتة عند أقدام الجبال الشاهقة , الشبه خالية من البشر المسربلة بالبرودة و بلادة المشاعر… والمكان غارق بالسكينة و الأمان تسيطر من خلاله على وعينا الداخلي مفردتي الصقيع و الغربة التي منهما تنسج الكاتبة حبكة القصة فكلاهما قاس و مؤلم،و على لسان بطلة قصتها تحلل لنا بيئة المهاجر الأوربية ، من سحنة البشر في الطرقات و عدم اكتراثهم بأحد، و وجوههم الشمعية الباردة الخالية من الدفء او المرح، قلوب تعكس وجوه باردة لا حياة فيها و لا حب، شفاه باهتة هجرها الدفء أيضا،… عيون ترسل نظرات زرقاء باردة تشبه الصقيع،.. طبيعة جميلة.. جبال ،غابات، مروج، و بحيرات و مساكن جميلة.. و بشر بكامل الأناقة.. لكن كل ذلك يأتيك باردا بنكهة الصقيع الأوربي.. اهذه سويسرا؟؟. تستغرب البطلة و تتساءل عن بلد طالما سمعت الناس يتغنون به… سرب من البط يعبر الفضاء، و أشجار عارية، و شعب كامل و كأنه يمارس هواية الركض إلى القطارات و المترو.. بوجوههم الباهتة كلوحات غادرتها الألوان.. كجثث حية تتنفس و تمشي و تركب قطارات المترو فقط.. من كل أنحاء العالم بسحنات أفريقية و آسيوية و أوربية، الكل هنا يمضون.. الكل يحمل وجهه الغارق في الصقيع نحو جهته.. لا بوصلة للدفء هنا.. جغرافية عارية كما اشجارها التي عرتها برودة طقس لا يرحم الحجر او الشجر..من هذا الاستهلال تأخذنا الكاتبة إلى جهة أخرى إلى تضاريس و جغرافية جديدة نبتت في أرض الصقيع.. ذاك المكان الضيق الممتلى دفئا و عاطفة و احساسا، وجوه طافحة بالبسمة و الحبور.. أحضان واسعة و عيون مبتهلة، رغبة صادقة، بعض الضجيج و بعض الفوضى، بعض العفوية،.. بعيدا عن تلك الوجوه الشمعية الباردة، ذات السحنات الكئيبة ، و رائحة الحطب المحروق التي لازالت تزكم الأنوف… في بيت الكردي، في تلك الشقة الصغيرة و التي ترددت البطلة كثيرا و في اللحظات الأخيرة من المجازفة، كيف لعلاقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ان تلغي كل الجسور و الجدران، ان تنفتح تلك الغرف، ان تشع بالدفء و النقاء و الحب،.. الكردي الشخصية التي تظهر في الجزء الثاني من القصة.. شاب اسمر يحتفظ بكثير من الفرح في قلبه و يحمل سمات الكرم في وجهه، موسيقي يعزف في المساء على آلة الطنبور الكردية ؤ التي يبدو أنه قد حملها معه من بلده الأصلي لتكون له رفيقا و مؤنسا، يدندن بصوته عاليا أغنيات كردية جميلة.. فيها الحزن يطفو تارة، و تارة تراه يهيج بالحزن لدرجة النحيب، انه الكردي.. و آلات أخرى تتوزع في ارجاء مسكنه الصغير.. طعام شرقي، رائحة مطبخ تعيد لهم.. للضيوف نكهة افتقدوها، و تاقت أنفسهم لها.. في المساء تتمدد البطلة و تفكر ملياً… كيف ذلك..؟ ؟. الكردي مسلم من الشرق، من كردستان.. من شمال بلاد الشام، هرب من جحيم الحرب الى صقيع الغربة.. حمل حبه للحياة و للسلام.. حمل عائلته و حمل الوطن أيضا في قلبه.. وهناك في بلاده حروبا لا تنتهي..!!. و البطلة و عبر حوار داخلي مع نفسها تستطرد قائلة : و انا المسيحية من جنوب لبنان.. لبنان الذي اثخنته حراب الطائفية و المذهبية المقيتة،.. كيف لطعام نحبه يجمعنا على سفرة واحدة، و نطرب جميعنا لموسيقا رغم اننا لا نفهم كلمات الاغنيات الا ان احساسا ينتابنا و تخترق ارواحنا نغمات الموسيقا و تمنحنا الدفء و العذوبة،.. لماذا في اوطاننا صراعات و حروب، مذابح و تدمير و قتل، لماذا الحرائق و النيران..؟؟ لماذا نصنع الجحيم ببلادنا، و هنا دفء العلاقة يحول صقيع الغربة إلى فردوس مشتهى. و جميل.. في الشرق الكل يحارب الكل، يختلفون، يتعاركون، يتذابحون، يختلفون على الأرض و على الحدود، و يختلفون على السماء.. على الله.. الاديان و اللغات و الاعراق تعيش جنبا إلى جنب ضمن جغرافية ضيقة و متشابهة…. و العداوة نار تحرق البلاد و تميت العباد.. لماذا كل هذه المشاعر الصادقة.. ماهي مصدر سعادتي و سروري، و انا ارنو لزوجة “عادل” تلك المرأة الجميلة الخجولة ذات الوجه الطافح بالبساطة و الجمال.. “نازنين ” ذات الاسم الكردي الجميل.. لماذا تنعدم في بلادنا هذه العلاقة، لماذا في بلاد الغربة يذوب صقيع العلاقة و ننسى عداواتنا و اختلافاتنا و مذاهبنا.. لماذا هنا نجتمع على موقد المشاعر الإنسانية الحقيقية وحب الوطن.. و وجودية الإنسان الفرد كشعب أيضا.. مجردا من دينه و من عرقه و من جنسه.. و لونه..و هذا ما تختتم به الكاتبة قصة “صقيع الغربة “بأنه لابد من ايقاد حطب المحبة و الإنسانية و نشر الدفء في العلاقات بين الشعوب بدلا من إشعال نيران الفتنة و المذهبية المقيتة و الحروب و الكراهية… قصة واقعية بمعنى انها حدثت او يحتمل حدوثها في اي مكان و في اي زمان، و تحتمل الإسقاط في اي بلد.. في اي وطن او غربة ما، قصة رغم بساطتها و واقعيتها الا انها عميقة بمستوياتها التاريخية و الاجتماعية و الدينية و الجغرافية، تقوم على تحليل ظاهرة لا زلنا نعيشها و يعيشها المغترب في بلاد الاغتراب البعيدة عن موطنه الأم.. سويسرا مضرب المثل في العدالة و الجمال و التعامل الإنساني و الرقي تتحول لصقيع و لبلاد كالحة، البشر هناك ليس لهم وجوه تبتسم و لا عيون تضحك.. هم يحملون وجوه حيادية تقف على خطين متوازيين من المرح و الجدية، مابين البساطة و التعقيد، مابين الدفء و البرودة، خالية من تلك النظرة الدافئة التي أشعلت في صقيع الغربة النار.. و اذابته روحا جميلة.. أنيقة.. نبيلة ،مسالمة، تبشر بالحب و تنشر الفن و السلام و تغني للحياة…
عبدالوهاب بيراني سوريا 21/5/2020