أ.د درية فرحات
الجامعة اللّبنانيّة
عرّف جيرار جينت القصّة بأنّها تمثيل حدث أو سلسلة أحداث واقعيّة أو خياليّة بواسطة اللغة، أي أنّها مجموعة من الأحداث يرويها القاص وهي تتناول حادثة أو عدّة حوادث، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض، ويرى أكونور أنّ القصّة القصيرة هي “فنّ اللحظة المهمّة”، واختيار هذه اللحظة من أدقّ مهارات القصّاص البارع فإن أجاد الاختيار وإقامة البناء القصصيّ من ثمّ، فإنّ هذه اللحظة قد تكشف عضرًا بكامله
وانطلاقًا من قراءة قصّة “أنوثة معلبّة:، فإنّ العنوان يقدّم لنا عتبة نصيّة مهمة تدفع المتلقي إلى الكشف عن مضمون القصّة، فيتحقّق لدينا هنا الوظيفة الإغرائية الإيحائيّة للعنوان، التي تحثّ المتلقي كي يخوض غمار النّصّ، وتترك لديه فضاء من التّساؤلات حول ماذا يقول، ويمكن أن تترك له بياضات يتوقّف للتّفكير وتعبئتها بما يناسب الفراغ التّأويليّ. فالعنوان يكشف عن دلالات متعدّدة، فيها إشارة إلى قضية الجندرة والعلاقة بين الذّكورة والأنوثة، أو البحث في مفهوم الأنوثة، والعنوان مكوّن من كلمتين نعت ومنعوت، وقد جاءتا نكرة، وفي هذا التنكير دلالة على العمومية وعدم التّخصيص، فالنّكرة هو كل اسم شائع في جنسه لا يختصّ به واحد دون آخر، سواء أكان الجنس موجودًا أو مقدرًا، ومن هنا فإنّ هذا التّنكير جعل هذه الأنوثة حالة عامة، وجاءت الكلمة نكرة موصوفة، وهنا يكمن التّساؤل كيف يمكن أن تكون الأنوثة معلبة، وبأي طريقة تعلّب؟
سؤال يتبادر إلى ذهن المتلقي فيندفع إلى قراءة القصّة، ليكتشف الفرضية التي برزت من العنوان. ويدرك أنّ من تحكّم في سرد أحداث القصّة سارد مشارك مستعينًا (بالرّؤية مع) فهو يستخدم ضمير المتكلّم، أي معتمدًا السّرد الذّاتي، والسّرد يكون بلسان أنثى
وإذا انطلقنا من الخطاطة السّرديّة يتبين لنا أنّ القصّة تنفتح على خوف السّاردة من تحرّش عامل الشّاحنة، وهو تحرّش تعوّدت عليه، ولم تعبّر عنه صراحة إنّما تُرك للمتلقي اكتشاف ذلك عبر قولها “خائفة أن يلحق بي ككل مرة ويلتصق بي مُتعلّلا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به”، وتتابع الرّاوية في القصّة إبراز التّحرّش الذي تتعرّض له من العم صالح الذي لم تمنعه سنوات عمره المتقدّمة من فرض غريزته عليها.
وهنا يحدث انقطاع زمنيّ، وينزاح السّرد إلى زمن سابق عبر استخدام تقنية الاسترجاع، فتسترجح السّاردة المتحدّثة موقفًا في طفولتها، وفيه إشارات سيميائية تشير إلى الأنوثة: فخذيها/ شعري الكثيف المتموج/ ضفيرتين/ امتلاء جسدي/ وبروز أردافي وخاصرتي ونهديّ/ القدّ/ البياض… ولم تكن هذه العودة الزّمنيّة عبثية أو لتعبئة فراغات وبياض الصّفحات، إنّما أضاءت زاوية مهمّة في الكشف عن حدث القصّة، فكان خوف الأم من هذا الجسد الممتلئ أن يكون سبب جلب المتاعب. فيكون الحلّ عند الجدّة بأن تلبسها عباءة أبيها الواسعة في ذلك يكون الحلّ بإخفاء معالم الأنوثة التي ظهرت على جسد الفتاة، ويحميها من عيون الذّئاب
موقفان يبرزان الرؤية السرديّة في هذه القصّة، بين أمّ تخشى على جسد ابنتها، خصوصًا لما يتمتع به من جسد غض ممتلئ، والجدّة التي ترى أنّ هذا الجسد هو وراثة عائليّة، ويكون الحلّ بتستير هذا الجسد بعباءة الأب، ولهذا العباة دلالة سيميائية مهمة تدلّ على التمسّك بالعادات والتّقاليد، فلا يكون السّاتر أو الحامي إلّا الأب، ولم تكن صورة الأب هنا ممثّلة للعاطفة الأبويّة ولرعايتها، إنّما تمثّل صورة الأب الذي يفرض على ابنته التّقاليد والعادات
وينتهي زمن الاسترجاع، لنعود إلى اللحظة الآنيّة، وفيها تعود السّاردة إلى موقفها الذي ترى نفسها عالقة بين أنفاس العم صالح التي تلاحقها، وبين مطاردات العمال وخصوصًا الميلودي، فتكون الحالة التي تشعر بها هي الضّيق والتّبرم، ومن هنا ترد المفردات الدّالة على ذلك: اختناق /ضيق تنفس/ ابتلعتني/ الهم ويكون الجسد هو علّة هذا الشّعور
وتقدّم لنا السّاردة نظرة استباقيّة لتحديد موقع عملها في معمل السردين، فتشبه نفسها مع الفتيات العاملات معها “تصل الشاحنة باب المعمل ، فنتقافز منها كما سمكات السردين وسط شباك الصيد”، وفي الوقت نفسه يعيدنا هذا التّشبيه إلى عنوان القصّة “أنوثة معلبّة”، فتكتمل صورة هذه الأنوثة المعتدى عليها
وتتابع أحداث القصّة فتصل إلى ذروة الحدث، واكتمال الصّورة المتشابهة بين السّردين المعلّب والأنوثة المعلبة، تقول “لكن أمام هذه السردينة الممتلئة لا يمكن أن أتحكّم في انفتاح شهيتي على مصراعيها، تمنّيت لو التهمتها مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها”، فتكون غريزة الجوع الدّافعة إلى التّلذّذ بلقمة طعام من السّردين هي وسيلة الضّغط على أنوثة الفتاة، فتكون فريسة للمراقب الذي يتّخذ التهامها للسّردينة حجّة للتّحرّش بها
وانطلاقًا من النّموذج العامليّ وفق الخطّاطة التي رسمها غريماس، لدراسة النصوص السّرديّة الحكائية يمكن أنّ نرى أنّ العامل الذّات في هذه القصّة يتمثّل في السّاردة، أي الفتاة فهي محور القصّة والأحداث ترتبط بها، وعامل الموضوع هو الذي تتّجه إليه العامل الذّات وهنا رغبتها في العيش بكرامة
والعامل المرسل هو الحافز الذي يشجع الشّخصيّة المحوريّة على تحقيق هدفها، وهو التّخلّص من النّظرات التي تلتهم جسدها، او التّخلّص بمن يتحرّش بها، واللافت هنا أنّ العامل الذّات لم يجد العامل المساعد، بل تحوّلت كلّ الظّروف إلى عوامل مناوئة لها، وكل ذلك أفرز بين القوى الفاعلة في القصّة علاقات وفق ما ذكر غريماس، ويمكن رصد هذه العلاقات بعلاقة الصّراع بين السّاردة و جميع شخصيّات القصّة، أي صراع بين البطلة والمعوّقات التي تحول دون تحقيق هدفها
تقدّم قصّة “أنوثة معلبّة” منظورًا أيديولوجيًّا مهمًّا، وهو تقديم صورة رافضة للواقع المرير الذي تعيشه الأنثى فتقع فربيسة لأطماع نظرات الآخرين، وقد تصل إلى حدّ التّحرّش بها جسديًّا أو حتّى بالنّظرات.
وما يميّز قصّة “أنوثة معلبّة” هو الأسلوب المتبّع فقد جاءت لغة النّصّ عفوية تتميّز بالانسياب وعدم التّكلّف، كما أنّ النّصّ جماع خطابات متنوّعة حيث كان هناك حضور للوصف الذي قدّم رؤية واضحة للرّواية وأدّى دورًا متميّزًا، فمن خلاله رسمت الكاتبة الشّخصيّات، وعرّفنا بطبيعة الفضاءات البارزة في القصّة من المكان والزّمان، واستطاع الحوار أن يكسب أحداث القصّة واقعيّة، وهذا التّنوّع في الخطابات أسهم من أبعاد رتابة السّرد، بل يمكن القول إنّ الكاتبة أجادت في تجسيد اللحظة المهمة في البناء فنّي للقصّة وكان قوامه الأساس التّكثيف والتّركيز والتقطير، فجاء هذا التّرابط بين البطلة والسّردين معبّرًا عن المغزى المراد، وعود على بدء يمكن القول إنّ هذه الأنوثة المعلبة خاضعةٌ لقيم اجتماعيّة تجعل من المرأة سلعة جاهزة لأطماع الرّجال، وقد تكون خاضعة للأفكار المعلبة السائدة في المجتمع
خلاصة القول إنّ هذه القصّة جمعت الاتقان بين الفكرة وطريقة التّعبير عنها، فكانت صرخة ذات مدى واسع ترتبط بقضايا اجتماعيّة متعدّدة