فاتن فوعاني
“أروعُ ما في الحياة أنّها فوّارة لا تنضب من العجائب. فما انفتحت عينٌ إِلّا على عجيبة، ولا انطبقت إِلّا على عجيبة.” بهذه الكلمات، خطَّ ميخائيل نعيمة مقدّمة كتاب “درب القمر” لفؤاد سليمان. للمرّة الأولى، تُكتبُ مقدمةُ كتابٍ ترثي صاحبه. ألّا يرى كاتبٌ عُصارةَ أفكاره مُتجسِّدة في كتاب لَهُوَ موتٌ فوق الموت. نعم، مات ابن التّاسعة والثّلاثين دون أن يُمسكَ بين يديه أيَّ كتابٍ له
تربِطني بابنِ قريةِ فيع، الكورة علاقة الدهشةِ الأولى، الرّعشة الأولى والانخطافُ الأوّل. علاقة الإنسان بكلِّ ما هو أوّل في حياته. “درب القمر”، كان بِكرَ كتبي والابن الَّذِي ما ضلَّ الطّريق يومًا. أوّل كتابٍ أشتريه بمصروفي الخاص، باللّيرات القليلة الّتي جمعتها يومًا بيوم وبحرمانٍ فوق حرمان. كان لا بدَّ للكتاب الأوّلِ أن يكون مُتَفَرِّدًا. فَفيهِ سأزرعُ جنى عمري وتضحيات الأيّام الطّويلة. وها هو يلمعُ على رَفٍّ خَشبيٍّ من بعيد ويناديني. اقتربتُ منه. تسمَّرَت عينايَ على عنوانه. لكأنّ قمرًا أضاء قلبي فاشتريته دون تردّد. لا تزال نكهة القراءة الأولى تنبعثُ في روحي مَنًّا وسلوى حتّى اليوم
تنبَّأَ فؤاد سليمان بموته الباكر عندما اختار “تموز” لقبًا. تموزُ، إله الرّعاة في بلاد ما بين النّهرين. تمّوز الَّذِي تحوّلَ إلى طائر مكسور الجناح فماتَ باكرًا حسبَ جلجامش. كان ابن فيع يشعر في قرارة نفسه بأنّه طفلٌ كبير ما فارقته طفولته القرويّة يومًا. بل بَقِيَت تأكل من صحنه وتنامُ في فراشه. تُهَوِّنُ عليه الحياة في المدينة، مقبرة الأحياء. بَقِيَ يحلمُ بشجرةِ اللّوزِ الّتي مزّقتها العاصفة. بالعريشة الحمراء الّتي نخرت عروقها دودة لعينة فحرَمته من رؤية القمر. بالسنديانة الخِتيارة الّتي قُطِعت وقودًا للمدفأة في ليالي كانون الباردة
كان مُقتنعًا بأنّ القمر لا يطلع إِلّا في ضيعته. ولا يتسلّل ضوؤه إِلّا من بينِ أوراق دالِيته. كان له وحده. هو الَّذِي أضاء دربه عندما كان يعود إلى بيته، قادمًا من بيتِ جدّهِ في الضّيعة المجاورة. هو الّذي اختارَ وجهتَه شبّاكَ جارته الحلوة فجَنَّدَ ضياءه كلّه قبالةَ بيتها. جارته الحلوة ذات ” الخدود الحمر بِلَونِ التّفاح الشّهيِّ أو في مثلِ ألوان الشّروق، حين ينسربُ الضّوءُ، من وراء جبالنا العالية
كان صديقًا لأمين الرّيحاني وقد زاره في بيته الكائن بالفريكة مرّاتٍ عدّة. عشِقَ ذاك الرّجل الشّرقيّ الغربيّ الّذي “قلبه هنا، في هذا التّراب… وعقله هناك عند ذلك البارد الغربيّ.” رآهُ ملكًا يضاهي ملوك العرب مكانةً. ومن يموتُ على دينه، امتلكَ الدُّنْيَا والآخرة
ماتَ فؤاد سليمان عام ١٩٥١. تموزُ فيع، سحبَته شياطين غالا إلى عالمها السّفليّ لكنّني أراه الآن يعود إلى قريته، يتفيّأ السّنديانة العتيقة، يقطف حبّات اللّوز الّتي تُذكّره بوالده ويسهر على سطيحة بيته، تحت العريشة، يُسامر القمر وبنت الجيران