واسيني الأعرج ل القدس العربي
كثر اللغط المأساوي هذه الأيام حول الكتابة وكأنها سباق دراجات معطوبة، وليست عملاً معقداً، ومسؤولية تاريخية أمام حياة هشة مهددة بالانقراض، في مجتمعات بشرية بدأت تتحسس مخزوناتها النووية والبكتيرية لإبادة نفسها بنفسها. كلما سمعت شخصاً يلغي غيره بجرة قلم أو بجملة، ويجعل من «سُرّته» مركز العالم، تأكد لي أنه يعيش انهياراً عصبياً وأزمة نفسية حادة، وكل إقصاءاته للآخرين ليست إلا الشماعة التي يعلق عليها أزمته الخاصة. الكتابة لغة أخرى، تواضع دائم أمام بياض الورقة كما يقول فارغاس يوسا، الفائز بنوبل، شيء أنبل وأكثر تواضعاً، قوة تسحب القارئ نحوها لدرجة التماهي معها. هي وطن عندما تغيب الأوطان المادية المسيجة المحكومة بمجموعة من الضوابط التي علينا أن ننصاع لها إذا أردنا العيش اجتماعياً. لكن الإقامة في هذا الوطن البديل، وطن الكتابة، ليست أمراً هيناً كما يتبدى لكثير من الكتاب الذين اختاروا السكن فيه. لهذا فإن هذا الوطن الورقي يمكن أن ينتفض ضدنا في أية لحظة من اللحظات عندما نتخفى وراء الوهم والكذب وتضخم الذات المتورمة، ونصبح بدل مواطنيه ضحاياه ورماده
نريد أن نكون سعداء في هذا الوطن اللغوي، هو حق مشروع، لكن لهذه السعادة اشتراطات مسبقة، ليست مستحيلة ولا مرهقة، لكنها ضرورية. لحظة تأملية في مواطنة الرواية والانتساب إليها، لأن الأمر هنا ليس توريثاً كما يحصل في الأوطان العادية، فالإنسان يولد في أرض، من مسار سلالي معين، ينتسب لها تلقائياً ثقافياً ودينياً وحياتياً، سواء أكان أمياً أو عالماً، مثقفاً أو جاهلاً، مسالماً أو طاغية، غنياً أو فقيراً، الأمر تحصيل حاصل، ولكن مواطنة الكتابة أو الوطن البديل أمر آخر، شديد الصعوبة من حيث كونه بعيداً عن التوريث وآلية الانتساب، فهو أولا وأخيراً استحقاق. الكتابة ليست هدية توضع في كفك، لكنها مقاومة ضد كل ما يبعث على اليأس، ويغلق أبواب الحلم والأمل. في الكتابة، كما في بقية الفنون الأخرى، تساؤلات كثيرة لا تفضي دوماً إلى أجوبة مقنعة، وسحر خاص لا ندرك مصدره بدقة إلا مع الزمن. ومع ذلك نستمر في الكتابة حتى لو لم يسمعنا الآخرون، لأن في دواخلنا ما يرفض أن يستسلم للسهولة. هل نكتب لأننا نريد أن نعبِّر عما فينا من حرائق، وأن نوصل صوتاً نشعر بأن هناك، في مكان ما، من يهمه أمره؟ أم نكتب لأننا نريد أن نخرج من ظلمة الجماعة لنتفرد، ونصبح شخصية خارج دائرة العام؟ هل نكتب لأننا نملك طاقة ضافية لا نريدها أن تضيع، وندرك بالقلب والحواس العميقة أن لها مستقراً في زاوية ما قد تكون اللغة مثلاً، ونتقاسمها بالقصد أو بالصدفة، مع من يريد ذلك؟ ربما نكتب لأننا بكل بساطة لا نريد أن نتلاشى قبل الوقت في زمن يذيب كل شيء. أسئلة تظل معلقة إلى أن نصل إلى إهمالها مع الوقت، أو تخزينها، أو التوجه نحو طريق أوحد، وتصبح الكتابة في النهاية هي عنواننا الأوحد، وندخل فجأة في أسئلة أخرى أشد كثافة وعنفاً أحياناً. مثلاً، كيف نصل إلى أعالي قمم الأولمب لنسرق النار المقدسة؟ ما الذي يميز كاتباً عن آخر؟ ما هي الآلية التي تجعل هذا يصل بسرعة البرق بموهبة متوسطة، وآخر لا يصل أبداً، أو يصل ببطء؟ هل هو منطق الكتابة نفسها وآلياتها؟ الموضوعات؟ سلطان الإبداع وقانونه؟ كثرة الاعترافات الوطنية والدولية والجوائز التي تنام على الحيطان والرفوف، أو في الخزانات التي احتوت كل جهده على مدار عمر بكامله؟ أم شيء آخر يكاد يكون زئبقي الحركة، لا يمكن تأطيره بسهولة، لتصبح الكتابة نقيضاً للذات المتورمة والمنتفخة؟
ربما كانت الكتابة ذلك الشيء الآخر الذي لا يمكن لمسه ولا تسميته، ولا أعتقد أن شيئاً ما يضاهيه بالنسبة للكاتب، لأنه هويته الأساسية
ربما كانت الكتابة ذلك الشيء الآخر الذي لا يمكن لمسه ولا تسميته، ولا أعتقد أن شيئاً ما يضاهيه بالنسبة للكاتب، لأنه هويته الأساسية، مثلما للعالِم هويته التي ترفعه إلى أعلى المقامات، وهي اكتشافاته واختراعاته ومنجزه العلمي، هوية الكاتب هي وطنه اللغوي وتواضعه الكبير أمام بحره، وطن بسعة الحلم، كلما وُضِعت له حدود وأسوار وأسلاك شائكة، هدمها وقطَّعها، وعبرها حاملاً في جسده وذاكرته جراحات زمنه الكثيرة التي حتى عندما تنغلق وتُشفى، تترك وراءها الندوب ظاهرة. وطن الكتابة ليس هو الوطن المشترك الذي يتقاسمه مع الجميع، لأن به تربة الأجداد ورفاتهم وحكاياتهم القديمة التي ما تزال تسري في الذاكرة الجمعية. فهذا الوطن ملكية عامة ليس لأحد حق احتكارها وحرمان الآخرين منها، مهما كان مقامه أو رتبته. التربة للميت والحي. الأمر يتعلق ههنا بوطن آخر، لا يمكن أن نعثر عليه إلا عند شخص واحد وحيد، هو من يشكله ويمنحه الحياة والاستمرارية حتى حينما يدق ناقوس الموت على أبوابه. حتى حينما ييأس ويحلم بإضرام النيران في كل شيء ورقي وفي أحاسيسه لكيلا تموت. وطن الكتابة هو الأنا المتسائلة دوماً التي تتملكها حيرة العمل الأول كلما واجهت فوضى الحروف وسلطانها
لا جدال في أن الكاتب، في النهاية، هو ابن هذه الأرض بمآسيها وإنسانيتها أيضاً، فهو من يقوم بتشكيلها إبداعياً وفنياً داخل مساحة الوطن اللغوي، ويختزل مسافاتها في ظل إعلام متحرك ونشيط، ووسائل اتصال حية تمنحه دفعاً قوياً لم يكن متوفراً من قبل. ولا غرابة لو قلت إن لمسة واحدة ترمي الكاتب في أية بقعة يشاء، ووفق ما يشاء. يحصل هذا على أرض ضاقت وصغرت حتى أصبح بالإمكان عبورها في دقائق فقط، لذلك فإن كل كاتب في عصرنا لم يعد ملكية ضيقة لتربة أو لحدود أو لجاذبية عرقية أو إثنية ضيقة، فهو صياغة كونية، عبارة عن صناعة ثقافية متعددة يتداخل فيها المحلي الخاص والضيق، بالعالمي المفتوح على الإنسان
ما من شك، إن التجارب المعيشة تلعب دوراً مهما في تحديد القيمة الفنية والهوية الإبداعية، أقصد بذلك التجارب المرة، والأفراح المقتولة، والخيبات الثقيلة، والمنافي الاختيارية، أو الإجبارية بكل توتراتها وصعوباتها
إذ يجد الكاتب نفسه بين خوفين قاسيين: إما أن يدخل في دائرة الحزن ويموت في العزلة، كما حدث لكثيرين في الأزمات الإنسانية الكبرى كما في الحروب التي وضعت سيلاً من الكتاب الكبار في أوروبا أمام خيار مغادرة أوطانهم، أو الدخول في مسالك صعبة ومعقدة تمنح الكاتب فرصة تحويل قسوة المنافي إلى حياة موازية وغنية.
. التواضع أمام الحياة وأمام التجارب الغيرية الأشد عنفاً من معاناتنا، وهنا يصبح وطن الكتابة أكثر من ضرورة، بل يصبح الملجأ الكبير ضد رياح اليأس العاصفة. كثيرون انتحروا في غياب الوطن البديل وفضلوا عليه وهم الشهرة المحلية أو العالمية المرضية، التي سرعان ما انفجرت كالفقاعة بعدما انتهت وظيفتها وحلت محلها كائنات جديدة أكثر استجابة للحاجة السياسية أو الإيديولوجية. فأينما وُجِد الكاتب، فالدائم فيه هو الفنان المتواضع أمام أقدار الكتابة القاسية. مات فرانز كافكا وهو في ظلمة عزلته لم يقل يوماً إنه يختزل عبقرية وطنه كلها. مات «الإله» تولستوي في محطة قطار متجمداً من شدة البرد، بعد أن منح ممتلكاته لفلاحيه، ولم نقرأ عنه ادعاء أبوة الأدب الروسي. ولا ماركيز ولا موراكامي، كل واحد في محترفه اللغوي يصنع عوالمه المدهشة. في النهاية، العظيم من يرفض أن يتفسخ بالتورّم، ويبني من خراب زمنه الصعب مساحات أخرى غير مرئية للحياة، ويشيّد مواطنة ملتصقة بأرض الكتابة المنتمية إلى مواطنة عالمية يشترك فيها مع كثيرين خارج الجنسيات الضيقة