06-10-2021 | 09:25 المصدر: “النهار” يوسف طراد
نحتاج أحيانًا إلى الهروب من الحاضر؛ وليس إلى ترميمه، أو تصويبه، أو تجميله… لنعاود العيش مع بَرَكة بعيدة عن “القرش الفايش”. ونسكن منازل نحفظ فيها الخير، من مؤونة كجدائل التوم والبصل السلموني، متدليّة من “السرود” التي تصل الحورة المعارضة بالحائط
كان طين جدران المنازل ومقاعدها، خليطًا من تراب الحوّارة اللّزجة، ممزوجًا بمخلّفات التبن، وكان الميسورون يضيفون إليه الكلس بنسبة عشرة بالمئة من حجم الخليط، حيث كان “يُطلس” على الجدران ويُدلّك بحجر بيضاوي شبه مفلطح، أملس الوجهين، لا يقلّ وزنه عن الكيلوغرام ولا يزيد عن الكيلوغرامين، وكانوا يسمّونه “ظلطة بحر”
هل تتخيّلون الحديث بين مكوِّنات الطين؟ وكأني بها تتحدّث بما يلي: أيها الرّفاق، أنا “العُوْر” ورفيقتي “القصرينة”، حين اجتمَعت أكداس القش على البيادر “يحابين” عامرة بالسنابل الذهبيّة، وفلشها الفلّاح على طرحة البيدر الدائريّة، تحت نورج امتلأت ثقوبه العديدة بالحجارة الصّوانيّة، استمعنا إلى غناء ومواويل، صادرة عن داروسٍ داخ من الدوران فوق نوْرج مهمّته التنعيم. نحن “العُوْر” و”القرصينة”، أهملنا الفلّاح لأنّنا لا نصلح علفًا لحيواناته، وكاد ينسانا بعد عمل المذراة التي فصلت التبن عن الحب بسحر ساحر، في ليالٍ غلب عليها نسيم الشرق، وعَمَل المسرد الذي فصل التبن عن “القرصينة” الخشنة، لكنّه سرعان ما جمعنا، عندما أدرك أنّنا من أهمّ مواد صيانة منزله، وحمايته من “الدلف”
فأنا “العُوْر” تبن ناعم جدًّا، أنعم بكثير من التبن العادي، كان يرشّني الفلّاح على سطح منزله قبل حدله بالمحدلة، كي لا يلتصق بها التراب الرطب، ورفيقتي “القرصينة” هي مكوّن أساسي في صنع طين “الفرِيز”، وها نحن الإثنان، نمنح الطين ليونة لمنع تشققه، وسهولة “دلكه”، كي يصبح متماسكًا ولا “يشلّق” عن الجدران. فلولانا لكنتما أنتما الحوّارة والكلس في مجاهل النّسيان، وبقيتما ترابًا أبيض وحجارة كلسيّة منسيّة
أيّها “العُوْر” إنّي أجالسك رحمة بك. هل سمعت بدبس العنب؟ أنا الحوّارة تربة بيضاء لزجة، رحلتي مع الحلاوة فرح متوارث من جيل إلى جيل. بعد أن تلفح الشمس عناقيد العنب، وتفكك أشعّتها الرصد عن الحبوب، كشفاه عاشق يتمتم لفك طلاسم حبٍّ لا ينتهي، وتجتمع الهمم في شهر أيلول بعد حفلة المجون بين الشمس والدوالي، وتمتلئ السّلال والصناديق الخشبيّة بعناقيد ذهبيّة، في رحلة إلى معصرة محفورة في الصخر، تنتظر عند أسفل ساقيتها الصغيرة “خلقينة” كبيرة، تتلهّف لتحتضن عصيرًا ينضح من عناقيد تدوسها أرجل صبايا غنجات، تتلوى بخصورها على وقع موسيقى صامتة، تثير شغف المراهقين والشباب. وقبل أن تتلقى “الخلقينة” نارًا لا تطفأ فوق موقد لاهب لا يهدأ، يحملني الفلّاح من المحفار، ويضعني في أكياس خيش على “قندلة” الدّابة، ليمزجني مع عصير العنب. إنّ مهامي متعددة، ومتناقضة، فهناك أفصل الشوائب عن العصير قبل أن أرتاح في قعر “الخلقينة” بعد الغلي. أمّا هنا فأجمع الأضداد: الكلس والتبن، من أجل ليونة الطين، لحسن “طلسه” على الجدران، وصلابته بعد نشافه لديمومته. فلولا وجودي لما اجتمَعت بنقيضك الكلس
يا رفاق العمر الطويل، أيّتها الحوّارة العزيزة، و”العُوْر” الحبيب و”القرصينة” الصفيّة، أنا الكلس، أكلّمكم بمحبّة، هل أنتم على دراية برحلتي الشّاقة اللّاهبة قبل أن أجتمع بكم؟ كنت هانئًا في البراري، حجارة كلسيّة بيضاء، أمتصّ مياه الأمطار لأخزّنها في جوف الأرض، ثمّ تتفجّر ينابيع عذبة تروي الطبيعة، حكايتي مع الشمس والمطر، تضاهي حكاية القصب والريح. فجاء المقلعجيّ وأذاقني مرّ الطرق بـ”المهدّة” وهجّرني من مكان سعادتي، ونقلني إلى أتون بُنِيَ سلفًا لتحويلي إلى ما أنا عليه الآن، ففي بئر الأتون الدائريّ تلقيّت نارًا لاهبة، لا أعلم إذا كانت تضاهي نار الجحيم. وبالرغم من عذابي، كان قلبي ينفطر عندما كنت أشاهد عذاب العمّال، وهم يرمون “السيكون” و”العراطة” في طاقة الأتون، وتلفح النار أجسادهم السّمراء، فيتصبّب العرق من جميع مسام أجسامهم. لكنّهم كانوا يستريحون بعد كلّ ساعتي عمل، ست ساعات، ويأتي دور غيرهم من العمّال، وهكذا دواليك على مدى عشرة أيام. أمّا أنا فلم يكن لي راحة من النار، إلّا عندما أصبحت نقيًّا ناعمًا بعد احمرار، وهي علامة التحوّل النهائيّة
تصوروا أنّ كلّ إنسان يتمنّى لأعدائه النوم في الأتون، كتلك العجوز التي كانت تشتم المراهقين الذين كانوا يقلقون راحتها، وكانت تقول لهم: “انشالله تناموا بالكمنتير وما تطلعوا من الأمِّين”. ها أنا أعود إلى أصلي صلبًا بعد خلطي بالماء، والآن أجتمع بكم بمحبّة لأجل البناء. فلماذا لا نعيش مع بعضنا عيشًا مشتركًا بسلام ورضى ووئام؟! فانتبهوا إذا تفرّقنا -لا سمح الله- و”شلّق” الطين عن الجدار، سيعاد جمعنا تحت ضربات “ظلطة” البحر التي لا ترحم، ويكون عيشنا المشترك رغمًا عنًا
معجم المفردات
-السرود: الجذوع التي تصل حورة وسط المنزل المخالفة بالجدران
-يُطلس: يوضع على الجدران
-ظلطة بحر: حجر بيضاوي أملس
-العُوْر: التبن الناعم جدًّا وهو أنعم من التبن العادي
-القرصينة: التبن الخشن الذي يحتوي على عِقد السنابل
-يحابين: جمع يحبون، وهو السنابل المجموعة في ضمّات كبيرة
-الفريز: مقعد مستطيل يُصنع من الحجارة ويُطلس بالطين
-يشلّق: يهدر عن الحائط
-الخلقينة: وعاء كبير مستدير من النحاس، أكبر من الدست بكثير يستعمل لصنع دبس العنب
-قندلة: شبيه بالخرج الذي يوضع على ظهر الدّابة ويصنع من الخشب أو من الحديد الخفيف
-المهدّة: مطرقة كبيرة من الحديد، ثقيلة الوزن تستعمل في تكسير الصخور
-السيكون: ما يجمع من البلّان والقندول
-العراطة: ما ينزع بواسطة المنجل من الأغصان الرفيعة عن الجذوع
-الكمنتير والأمِّين: من أسماء الآتون المحليّة