غادة السمان عن موقع القدس العربي
قرأت «في القدس العربي» عن شاب أردني هو ياسين الصقور، يعشق الأفاعي ويعيش معها، ولم يدهشني ذلك.
فأنا أيضاً لا أخاف الأفاعي (لكنني لا أعشقها) ولا أعيش معها! ويرجع الأمر إلى أيام طفولتي؛ فقد كنت مع جدتي في مطبخ بيتنا الدمشقي العتيق، وكانت جدتي تعد أطباق «الرز بحليب» حين خرجت من بين أحجار الجدار في بيت بعضه معمر على سور دمشق القديم، خرجت أفعى، ولم تخف جدتي أو تصرخ، بل قالت لها «سيري يا مباركة». وتركت لها صحناً من الرز بحليب، ومضت الأفعى في طريقها. وقالت لي جدتي إن هذه الأفعى سمّوها «الألفية» وتعيش في بيتنا منذ ألف سنة وستلدغ كل عدو يحاول احتلال البيت. إنها ذكريات الطفولة غير الدقيقة، مثل كومبيوتر مخرب، لكنني كبرت على عدم الخوف من الافاعي، بل وحتى القدرة على الإمساك بالصغير نسبياً منها
غالي شكري والأفاعي
منذ أعوام بعيدة دعانا الدكتور خليل سالم (كان مديراً لوزارة المال) للغداء عنده في قريته الجميلة في لبنان ـ الكورة (بطرام)، وتصادف أن وصل صديق زوجي الناقد غالي شكري من القاهرة، واصطحبناه معنا. وفي بطرام، قالت لنا جهاد سالم شقيقة الدكتور سالم، إن في قريتهم من يربي الأفاعي ويبيعها لأغراض طبية، لأن سمها يسهم في صنع الأدوية. وذهبنا إليه قبل الغداء، وأمسكت بأفعى وكان منظرنا طريفاً (ومن ذكرياتي الضاحكة) وأنا أحمل أفعى وأركض بها خلف غالي شكري في أزقة القرية والناس تضحك، وأنا أقول له: حذار من كتابة نقد غير ودي لكتبي.. لكنني أعدت الأفعى إلى صاحبها ولم يبق منها إلا ذكرى ضاحكة.
كعلاقات الحب كلها
العلاقات العاطفية مع الأفاعي غير ضرورية، المهم عدم الخوف المسبق. عليك أن تمسك بها من رأسها وتطبق فمها بيدك بكثير من الحزم لكي لا تلدغك، ثم تربت عليها بلطف لأنك لا تريد إيذاءها.
مرة أهداني صديق من قرية لبنانية أفعى أعدتها له ليعيدها من حيث جاءت شرط عدم قتلها، فهي من مخلوقات الله تعالى، لكن زوجي ووالدته رفضا (إقامتها معنا)
الأفعى في بانكوك
حين زرت تايلندا برفقة ابني الدكتور حازم الذي كان ما يزال صبياً صغيراً، جاء رجل يروض الأفاعي إلى فريقنا السياحي لالتقاط صورة لكل منا وأفعى ضخمة تلتف حول عنقه وتتدلى حتى الأرض. رفض الجميع تقريباً ذلك، لكنني رضيت، ولي صورة معها سأنشرها على الغلاف الأخير لأحد كتبي في «أدب الرحلات». كان في وسع تلك الأفعى أن تلتف حول عنقي وتخنقني، ولكنها لم تفعل. ترى هل توجد كهارب بين الكائنات الحية تجعلها تعي عدوها من محبها دون حوار؟ ألا يحدث شيء كهذا في لحظات الحب الصادقة؟ والحقيقة أنني كنت واثقة من أنه خدرها!!
ذكرني بما تقدم ما قرأت مؤخراً عن الأردني ياسين الصقور الذي (يعشق الأفاعي) كما جاء في جريدة «القدس العربي»، ولم يدهشني الخبر، بل وسرتني رغبة ياسين الصقور في الحفاظ على البيئة على الأقل!
وتذكرت بيت شعر لقائل: عوى ذئب فاستأنست الذئاب إذ عوى/وصوّت إنسان فكدت أطير!
لبنان الحزين
وأخيراً، أذاعت القناة التلفزيونية الفرنسية رقم 6 برنامجاً كانت قد أعلنت عنه قبل أسبوع، وسهرتُ بانتظاره ولم يذع، وهو «تحقيق خاص» يقوم به الصحافي الفرنسي دولا فيلارديير، ويذهب بنفسه إلى البلد الذي يقدم تحقيقاً خاصاً مصوراً عنه، ونراه يتحدث إلى الناس ويتجول في الشوارع والأزقة. المشتاق مثلي إلى لبنان (لم أذهب كعادتي لملء بطاريتي الكتابية، وذلك منذ عامين لانقطاع الكهرباء في لبنان ووفاة البنوك) وغير ذلك مما لا يجهله أحد. والصحافي الفرنسي دولا فيلارديير يعرف بأنه ذاهب إلى ما كان يدعى في برنامجه (سويسرا الشرق) أي لبنان، وكان هذا لقب لبنان من زمان، أما اليوم فنرى في التحقيق ما لا يجهله أي لبناني، وهو حقيقة الحال ومدى الانحدار المعيشي والانحدار الاقتصادي واختفاء الكهرباء والأدوية من الصيدليات، وأسعار الطعام الباهظة. وأكرر: وما لا يجهله أي لبناني. لم أندم لأنني شاهدت على شاشة التلفزيون ما لا أجهله، لكنني حزنت.
فقد كان لبنان الجميل موقعاً سياحياً على الأقل، ويدر على أهله الكثير من المال وينعش فنادقه ومطاعمه.. وكان ياما كان لبنان، وبعدما انتظرت طويلاً مشاهدة هذا التحقيق أسفت لأنني شاهدته وأيقظ أحزاني.. وذكرني أيضاً بانفجار المرفأ ونجاة (الذين تسببوا في كبوة لبنان) من العقاب.. ويدفع المواطن الثمن دائماً في لبنان وينجو المجرم أو المسؤول عن الجريمة.
رحيل «ملكة الليل» في باريس ريجين
التلفزيونات الفرنسية أذاعت نبأ وفاة ريجين (92 سنة) صاحبة العديد من النوادي الليلية الباريسية للمشاهير. وشاهدت صورها وهي تستقبل في أحد نواديها (النجوم) من أمثال شارل ازنافور وأنتوني كوين وخوليو إغليزياس وفرنسواز ساغان وكلود بريالي وبتولا كلارك وسواهم كثير، وتعانقهم مرحبة ضاحكة. ولكنني كنت قد شاهدتها وحيدة في مطار مدينة برن (عاصمة سويسرا). وطلبت بعجرفة من أحد العاملين هناك قطعة نقدية لتجري اتصالاً هاتفياً (لم يكن الهاتف المحمول قد تم اختراعه بعد) وزعم أنه ليس لديه ربما بسبب طريقة حديثها المتكبرة معه، وأذكر أنني كتبت عن ذلك يومئذ، إذ كان لها وجه متعجرف، حتى إن العامل في مطار برن لم يلب رغبتها نكاية بها. واليوم بعد رحيلها، شاهدت في المجلات الفرنسية صورها الباسمة دائماً مع المشاهير. وكانت «ملكة الليل» الباريسية ريجين في صورها كلها ضاحكة وسعيدة وفخورة، وهو غير الوجه المتعجرف الذي شاهدته في مطار برن.
ترى، هل لها وجه ترتديه بحضور المشاهير، وآخر هو وجهها الحقيقي المتعجرف وربما الحزين؟
الله وحده يعلم، رحمها الله ورحمنا!