لماذا يلجأ بعض الأدباء للكتابة التاريخية؟ سؤال يراودني كلما قرأت رواية تاريخية, من أول ( سمرقند) لأمين معلوف, والتي أجد أن الأديب محسن الغمري قد تناص معها في روايته موضوع الدراسة( أفندينا), من حيث التقنيات السردية, فكلاهما استمد من الحدث التاريخي أرضية أو ديباجة عمله الأدبي, وكلاهما حاك من السيرة الغيرية للشخوص التاريخية نسيجه السردي, ففي (سمرقند) تناول أمين معلوف حياة الشاعر والفيلسوف والمفكر عمر الخيام, والتي يتحدّث فيها عن قصة الرباعيات الشعرية الفارسية الشهيرة, كما تناول تاريخ الدولة السلجوقية والكثير من الأحداث والشخصيات التاريخية الفاعلة والبارزة في ذلك الوقت, مثل الوزير نظام, والزعيم حسن الصباح زعيم الحشاشين, وذكر علاقة الحب مع شاعرة سمرقند. أما في أفندينا, فقد تناول محسن الغمري سيرة عباس حلمي باشا, الوالي الثالث على مصر في العهد العثماني, من بعد جدّه محمد علي باشا, وعمّه إبراهيم باشا, ويروي كل الأحداث السياسية والاجتماعية المرافقة لتلك الحقبة التي استمرت حوالي 50 سنة, من 1805 إلى 1855
في الرواية التاريخية, يختلف الروائي عن المؤرّخ, فبينما المؤرّخ مأخوذ دائمًا بالحذر والدقة في نقل الحدث السياسي والظاهرة الاجتماعية, نجد الروائي في براح لا يقيّده سوى انشداده أمام الحركة الدائمة للشخصيات ورصد تحوّلاتها, وجماليات وصف المكان, والبعد الجسدي والنفسي والسلوكي للشخصيات, بتغليب المجاز والبيان البلاغي الرمزي والإيحائي, بعيدًا عن تقريرية ومباشرة الكتابة التاريخية الوثائقية التي يعتمدها المؤرخ
إن لجوء الأديب للكتابة التاريخية, لا يقصد بها بحال من الأحوال منافسة المؤرخ, رغم أنهما يستقيان عملهما من ذات البئر, لكن المؤرّخ يسكب ماءَ دلوِه على الواقع الملموس, بينما يسكبه الأديب على الخيال
وهذا اللجوء هو بغاية تقديم عمل فني, يُقبِل عليه المتلقي بإدراك واعٍ من أن الكاتب استند بأحداثه إلى التاريخ فعلًا, لكنه أبقاه مجرّد قالبٍ فكريٍّ تدور فيه الأحداث, وينضج فيه الخيال والأحلام والرؤى, وبذلك يتحصّل المتلقي على المعرفة والمتعة
التقنيات السردية التي رصدتها في ( أفندينا)
ـ تقنية الميتاسرد
حاول الكاتب محسن الغمري خوض تجربة استخدام تقنية الميتاسرد, حين جعل روايته التاريخية السياسية حكاية طويلة مروية من مخطوط تدويني قديم شغل حوالي تسعة أعشار العمل الأدبي, بينما العشر الباقي كان بمثابة إطار سردي رفيع, بحبكة بسيطة جدًا, تسطّحت فيها العناصر الفنية للرواية المعاصرة, فلم ترتفع فيها أضلع التشابك السردي, فاختفى فيها الصراع الدرامي, والعقدة, واقتصر فقط على بداية ونهاية, وفواصل سردية تتخلّل الرواية المُضَمَّنة كمحطّات يستريح فيها السرد مستردًّا أنفاسَه, ومتحضّرًا لجولة سردية جديدة, وقد يقوم الكاتب فيها بالتسلّل المباشر ليعرض آراءه وتفسيراته حول تلك الشخصية التي يعتبرها بحال من الأحوال مظلومة ومشوّهة من قبل التاريخ ومن يكتبه. وقد نجح الغمري في استخدام هذه التقنية ومتمكّنًا من إدارتها عبر الوسيلة المثالية ( المخطوط), لكن دون الخوض في عمق هذه التقنية, حيث هناك بعض الروايات التجريبية التي تختلط فيها الرواية المعاصرة الإطارية بالرواية التاريخية الداخلية عبر انتقالات لا منطقية, محمية بحرية الخيال ورحابته
ـ تقنية تدوين اليوميات أو المذكرات
وهي تقنية سردية قديمة في الحضارة العربية الإسلامية امتدت حتى القرن الرابع الهجري, ابتدأت بالأنواع السردية الخبرية, ثم تطوّرت إلى المرحلة الإبداعية فظهرت المقامات والقصص الشعرية وقصص الجن, وحكايات على ألسنة الحيوانات, ثم سير الملوك والتاريخ, والنوادر, والندماء, والقيان والمغنين والعاشقين,… وهي تقنية أظهرت تطوّرًا بارزًا في نقل السرد الخبري التوثيقي, وأضافت له الإثارة والمغامرة والعجائبية, وهنا, اعتمدها محسن الغمري في إطارها الخبري التوثيقي, مدعومًا بالتأريخ الدقيق, بأوقات النهار والليل, وتاريخ اليوم والشهر والسنة الميلادية والهجرية, فلم يخرج بها عن هذا الإطار المباشر إلا لممًا, حين يعطي
للراوي ( المدوّن صفي الدين القولي) مساحته الخاصة في استخدام تقنية
ـ المونولوج الداخلي وتيار الوعي
حيث تجود قريحة السارد المدوّن (صفي الدين القولي) بالوصف الجمالي : كما جاء في الصفحة 353
حل شهر ديسمبر, مرتديًا معطف فرائه الثقيل, وتذكرت مرتع طفولتي في مثل هذا الحين, وقتئذ تُغسَلُ القرية بالمطر, تكفّ ببرده الأبيض, يدفنها ركام كتلته الثلجية, تحزن شمسها وتحتجب, لا توقف السماء بكاءه
ـ التقنية الملحمية والبوليفونية الفكرية
وقد شهدناها في هذا العمل, من خلال محاولة الكاتب تغيير النظرة الشمولية القاتمة التي روّج لها كاتبو التاريخ لشخصية عباس حلمي الأول, حيث قام الغمري بوضع هذه الشخصية أمام القارئ في حقل الرصد, وفي هذا الحقل أسمَعَنا العديد من الأصوات, ووضعنا أمام العديد من الرؤى, وكل هذه الأصوات والرؤى تذوب في ذات البوتقة الرؤيوية الشمولية, بمعنى أنها حسب تعبير هيغل ( تتوارى أمام كلية الرؤية الشمولية, ولا تؤسس لها حضورًا قويًّا مستقلًا على حساب هذا المنظور العام), فكل مَن حول عباس حلمي يؤكّد سوداوية هذه الشخصية, لكن فجأة نجد الكاتب يحاول التأسيس لمفهوم البطولة الملحمية لهذه الشخصية في مواجهة هيمنة الآخرين, حين يؤكّد حرص عباس حلمي الأول على أملاك الدولة حين يتولّى أمر مصر, ويقاوم محاولات أسرة محمد علي للهيمنة والاستحواذ عليها, كما يقاوم الرغبة المبيّتة للسلطان العثماني والصدر الأعظم لإخضاع مصر للهيمنة العثمانية وعودتها ولاية عثمانية, مؤكّدًا أن مصر دولة مستقلة لا تدين للسلطنة العثمانية إلا بالولاء الفخري, يفرضه واجب المؤازرة والدعم والإغاثة والنجدة ضدّ أي عدوان خارجي على السلطنة العثمانية, كما حدث في حرب القرم التي آزر فيها عباس حلمي الأول السلطنة العثمانية في حربها ضد الروس
ـ تقنية السيرة الغيرية
وقد برع الغمري بها, مستوفيًا عناصر سيرة البطل الشعبي كاملة, من حيث
ـ النسب : الحفيد الأول لمحمد علي باشا من ابنه طوسون, ثاني أبنائه من زوجته الأولى أمينة هانم, الوالدة بمبا قادين
ـ نبوءة المولد: النبوءة التي ذكرها الرجل البدوي الذي طبّب بمبا هانم حين أصابتها الحمى وهي حامل بعباس حلمي, من أن هذه الحمى ستؤثر على دماغ الجنين, وحين يستقبل الحياة سيعيش مصابًا بالصرع
ـ المولد: خارج حدود الوطن مصر, في الصحراء الحجازية ( جدّة)
ـ الطفولة غير العادية: يتيم يعتزل أقرانه بسبب مرضه ( الصرع), ويحقد على جدّه محمد علي باشا لأنه يعتقد أنه السبب في يتمه, لأنه أبعده عنه بحملات الغزوات المتتالية والتي مات في آخرها, وعلى عمته نازلي التي تغار من أمه و تحقد عليها وعليه, وعمّه ابراهيم باشا الذي يزدريه ويسخر منه
ـ مرحلة الشباب: متأثرًا بأفكار شيخه الوهابي ( أحمد الإحسائي), يمعن في الانعزال وكره أعمال جدّه التي يرى فيها ممالأة للكافر الأوروبي, ومتأثرًا ببيئة المنشأ يعشق الخيل, ويتودّد لأهل الصحراء, ويبني قصوره في بيئة مشابهة لبيئة الصحراء منعزلًا عن بيئة الحضر
ـ نبوءة الموت: جاءته على لسان الغجرية, وشيخ الزاوية
هو عمل متعوب عليه فعلًا, وقد حرص الغمري على ذكر المراجع والمصادر التاريخية التي اعتمدها للتحقيق في الأحداث, بكل الأحوال, التحقيق يخضع له عمل المؤرخ وليس عمل الأديب, وهذا لا يعقي الأديب من ضرورة تحرّي الحقيقة عند كتابة أحداثه, بالإضافة إلى الهوامش التي شرح فيها معاني بعض الكلمات والمصطلحات التي كانت متداولة في ذلك العصر, يُسجَّل على العمل بعض المثالب, كالتكرار, والأخطاء الإملائية والنحوية, فالعمل كان يحتاج إلى تدقيق لغوي قبل طبعه, وأظن أن الكاتب اعتمد على دار النشر لأداء هذه المهمة, ودار النشر, كالعادة, لم تقم بذلك كما يجب
أحيّي الأستاذ محسن الغمري, وأشكره على ما أمتَعَنا به, وما قدّمه لنا من إغناء معرفي تاريخي وسياسي واجتماعي ولغوي من خلال هذا العمل, متمنية له النجاحات المطردة في القادمات
الاسكندرية