
بداية لا أخفي شوقي لقراءة أيام في المكسيك عندما علمت بصدوره، صاحبته أديبة الرحلات هايدي عبد اللطيف وكاتبة “على خطى همنغواي”، الذي سبق ووقعت في غرامه، وأُعجبت بأسلوبها الخاص في الكتابة عن رحلاتها، حيث تصبح مشاعرها مرافقة للأمكنة التي تزورها. ترويها لنا بتلك الانطباعات المميزة والخاصة. في أوقات كثيرة ينتابني شعور أن هايدي بطلة في رواية وهي الساردة للأحداث، شخصية مغامرة وتعترف قائلة: قررت أن أقطع نصف الكرة الأرضية، بحثاً عن آثار مبدع كبير مثل أرنست همنغواي، والآن تخصص كتاباً لرحلة تلامس فيها جداريات أهم فنان عالمي أعاد لفن الجداريات ألقه، دييغو ريفيرا. ربما كثيرون في بلداننا العربية يعرفون أدق التفاصيل عن حياة زوجته الفنانة الشهيرة فريدا كالو، لكنهم لا يذكرون أستاذها ومعلمها وحبيبها ريفيرا. وتأتي هايدي لتضع بين أيدينا هذه التحفة الرائعة بعنوان: “أيام في المكسيك: بصحبة دييغو ريفيرا”، الكتاب الصادر عن دار السلاسل الكويتية، في ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير.
أيام في المكسيك، هو رحلة القارئ السري، الذي لا تعرفه هايدي بعد، هكذا كان إحساسي الشخصي، وأنا أقلب أوراقه بمتعة جديدة، أمسك بقلم الرصاص وأرسم بخفة سطوراً تحت عبارات استوقفتني لشدة جمال الوصف، أو نجوماً قريبة من مقطع أدهشني أثناء الرحلة. ومن قرأ كتابها السابق على خطى همنغواي لا بد أنه يعلم عما أتحدث هنا، عن رحلة فريدة من نوعها في عالم أدب الرحلات، حيث تأخذنا في مغامرة شيّقة عبر شوارع المكسيك، ولكن هذه المرة برفقة روح الفنان الشهير دييغو ريفيرا. من خلال استكشاف جدارياته الموزعة في العاصمة المكسيكية، وأغلبها في مبانٍ حكومية أو متاحف كبرى، تلك الأعمال الفنية التي تُعبر عن عمق التاريخ المكسيكي وروح النضال الشعبي، لتمنحنا فرصة معرفة أقرب لحياة الفنان وعلاقته بالمكسيك والعالم. في ذات الوقت لا يفوتها أن تكتب تفاصيل وصولها إلى كل جدارية، بل تورّط القارئ ليكون رفيقها منذ أن ركبت الطائرة، ليكون شاهداً على كل ما مرّت به من أحداث، سواء تعارفها على رفيق في الطائرة، والتي ستكون لساعات طويلة تمضي في الكلام عن المكسيك والفنان ريفيرا، أو لحظة وصولها، والمفاجأة بموقع السكن الذي تم حجزه عن بعد، ومن تلك اللحظة تعقد المقارنات بين مصر والمكسيك، وسوف يجد القارئ كثيراً من التقاطعات أثناء تلك الرحلة، والتي نقلت لنا روح المكان كما لامسها من الداخل.
في لحظات كثيرة من النص، نكتشف أن هايدي لا تكتب فقط عن الأماكن، بل تعيشها. فحين كتبت عن جلوسها أمام إحدى الجداريات منتظرة صديقها رامون، اكتشفنا عشقها الخالص للفن، كانت لحظة استسلام للحلم، غياب عن الزمن اليومي، ودخول في طقس خاص لا يعيشه إلا من تعلّم الإنصات للصورة. لم تكن تسجّل فقط الألوان أو الرموز، بل كانت تستقرئ الزمن الكامن خلفها. هذه الهدنة مع الذات، وسط مدينة صاخبة، تكشف جانبًا خفيًا من هايدي: المرأة التي تستطيع أن تكون وحدها دون أن تشعر بالوحدة، والتي تعرف أن الرفيق الحقيقي في الرحلات هو الانتباه.
ولعلّ اللغة لعبت دورًا عميقًا في هذه الرحلة. فهايدي تجيد الإسبانية، لكنها لا تكتفي بفهم ما يُقال، بل تنصت لما بين الكلمات. حين كانت تتابع الشرح حول رموز المكسيك، بدا أنها ترى اللغة أبعد من أنها وسيلة تواصل، اصبحت جسرٍ لنقل الثقافة والمشاعر. اللغة عند هايدي تحولت إلى ذاكرة حيّة. تحكي تفاصيل الحياة اليومية في الشوارع والحدائق، والمطاعم ورحلة القوارب. تتمثل تلك الحكايات بمزيج من اساطير المكان وروحه، تنقله بتأثر شخصي واضح مما جعلني أتوقف للحظة عند الصفحة 200 من الكتاب، بل وضعت خمس نجوم على اقتباس تقول فيه: “جاء ذلك في الوقت المناسب. ولأنني أحرص دومًا على التقاط الإشارات حينما تمر بي في حياتي ولا أُصدق أن ما نمر به هو بالصدفة، شعرت وقتها أن ريفيرا بعد تأكده من قِبلي بأنني لم أكن فقط شاهدة أعماله الجدارية، وسيعيي بعدها في الأيام التالية، إذا كنت بدأت بها رحلتي، فقد جاءت تفاصيل حياتـه التي اقتربت منها في الأيام السابقة. وأظن أنني لم أكن لأفهم أعمال ريفيرا أو ألتقط تفاصيلها، إذا كانت بداياتي بها، فكان لا بُد من التمهيد لها، وجاءت المصادفة بمشاهدات الأعمال السابقة لتمهد لي هذا الفهم الحقيقي لما أراد ريفيرا التعبير عنه من خلالها. ورغم أنني كنت أتعامل بروح الفنان الراحل ومُنحت تلك الفرصة أن أرى المكسيكيات وتاريخها بعينَي دييغو ريفيرا، وفي تفاصيل حياتهن، وجوه ناسها وشيَعها، وفي أعماله الجدارية، فتح لي أبوابًا كانت مغلقة من قبل.”
وفي صفحات كثيرة، يظهر جانب مهم من شخصية هايدي: علاقتها بالناس، بتلك الصداقات العارضة التي لا تتكرر، لكنها تترك أثرًا. نقرأ عن رامون، وتيريزا، وريكاردو، وندرك أن الرفقة عند هايدي تشبه نسمة: تضيء اللحظة ثم تذوب. هي لا تبحث عن أصدقاء دائمين، بل عن حكايات صغيرة تختبر عبرها العلاقة مع الآخر.
وحين تكتب عن الجدارية الأشهر “حلم عصر يوم أحد في منتزه ألاميدا”، لا تكتفي بالوصف، بل تدخلها. تقول: “قررت قضاء عصر يوم أربعاء مع جدارية الأحلام” — وكأنها على موعد مع حياة أخرى. هايدي لا تشرح اللوحة، بل تسكنها. تقارنها بوجوه من ذاكرتها، وتسأل الأسئلة التي لا يسألها المرشدون السياحيون.
وفي لحظة اعتراف ضمنية، تكتب أن الفن لم يكن مجرد مشهد بصري، بل مرآة. مرآة لتاريخ البلاد، ومرآة لأسئلتها الداخلية.
وفي العودة لرحلتها وبحثها عن أماكن تواجد الجداريات، رغم ما عرفنا من الصفحات الأولى كيف استعدت بشكل جيد لها، وأجرت بحثاً مستفيضاً، وذهبت إلى سفارة المكسيك وقابلت السيدة التي تعمل بوظيفة قنصل، عندما قدمت على التأشيرة، وأهدتها بوصلة تمشي عليها وتتنقل في بلادها، وهي جملة من المعلومات والنصائح.
ويبرز جانب آخر مهم في شخصية هايدي من خلال علاقتها بجدران المدينة وجدارياتها: كيف تحوّلت اللوحات الضخمة إلى نقاط تأمل، وإلى علامات فارقة في رحلة شخصية تبحث فيها عن الذات بقدر ما تبحث عن الفن. نقرأ معها عن جدارية “المكسيك اليوم وغدًا”، فنجدها تكتب: “عبّر فيها الفنان عن أفكاره السياسية بصورة مباشرة من دون رمزية، جسّد الصراع الطبقي بين الرأسمالية الصناعية والعمال، مستخدمًا مكونات الآلات، ورجال الدين والعسكريين والرأسماليين، في تقسيم واضح ومقصود.”
وفي وصفها لجدارية “الأقواس”، تنقل عن ريفيرا قوله: “بحلول الوقت الذي أكملتُ فيه الأقواس، عدَّدتها أفضل شيء قمتُ به على الإطلاق… في هذا العمل، استلهمت الحركة المعمارية للسلالم نفسها وربطتها بالاتجاه التصاعدي للثورة… لم يكن هناك شيءٌ انفرادي.”
قرأت كثيراً في أدب الرحلات، ولكن ما قدمته لي هايدي من متعة، هو نتيجة مشاركتها لنا في كتابة أدق التفاصيل والمشاعر الإنسانية التي تعتري الشخص المغامر، الذاهب بروح منفتحة لاكتشاف العالم. وكثيراً ما انتقل لي شعور الحماس بين حروفها، وشخصياً كنت سعيدة بمتابعة أدق التفاصيل في رحلتها تلك، حتى مع مقارنتها لبلدها مصر مع المكسيك، حيث توقفت أمام بعض الأشياء التي وجدت فيها روح مصر. ولا ننسى أهراماتها الأشهر في العالم، مع أهرامات المكسيك.
كتاب يستحق أن تُكتب عنه عروض شيقة كثيرة، فهو سفر ترحال إلى بلاد غنية بالألوان الدافئة، والشمس المشرقة، والفن، والأساطير، والحكايات. في النهاية ستجد أنك عرفت عن المكسيك الكثير مما لا يتم تسويقه عبر الأفلام والإعلام. كتاب مُلهم، سوف يغيّر نظرتك إلى هذه البلاد، والأهم أنك ستكتشف أنك كنتَ — طوال الوقت — بصحبة دييغو ريفيرا حقاً.