وقد تُرجِمَت هذه النّظريّة في معظم بيوت الأدباء الّتي زرتها. على مدخلِ المنزل، تُطالِعنا صورةٌ بالأبيض والأسود لوالدة الأديب، تكادُ تكون أيقونةً سماويّة. كنتُ أغرقُ في وجوههِنَّ الملائكيّة، لكأنّهنَّ دون خطايا. فبَركة تربية مُفكِرٍ تمحو كلّ خطاياهنَّ.
١- كاترينا ابنة الخوري موسى عبّود:
ربَّت ولدًا مشاغِبًا منذ نعومةِ أظفاره. توأمٌ للمعارضةِ ونَدٌّ للتّمرّدِ. كان يهرب من حزمِ والده إلى حنانِ أمّه. فكانت مرتعًا لأفكاره الثّوريّة الّتي تهدِّد جذور الأسرة ومسارها الدّيني وإرثها اللّاهوتيّ. طفلٌ، كانت كلمته الأولى “لا”، وعقابه الأوّل أن يكتب الأبانا مئة مرّة. طفلٌ عجنته يدا كاترينا فكان مارون عبُّود.
٢- أنيسة جفال طعمة:
أمٌّ زاهدة متديّنة، عالمها الصَّغير بيتها الرّابض على تلّةٍ من تلال الفريكة وعائلتها الكبيرة كنيسة الضّيعة. يعبقُ منزلها بالأبخرة والتّراتيل والصّلوات. عَبَثًا حاوَلت أن تهديَ ابنها إلى دور العبادة، إذ أنّ جوابه كان:” الله موجودٌ في كلّ مكان.” ورثَ منها أجمل القِيَم. كانَ مِعطاءً، مُحِبًّا للخير، قد يغدق على محتاجٍ قابله في الطّريق بكل ما في جيبه. صاحبُ مواقفٍ صلبة وفارسٌ بأخلاقه ومبادئه. إنّه أمين الرّيحاني.
٣- كاملة أسطفان عبد القادر رحمة:
امرأةٌ جبّارةٌ. حملت على كَتِفَيها أربعة أطفالٍ وهاجرت بهم إلى الولايات المتّحدة هربًا من فقرٍ مدقعٍ ومن زوجٍ مقامرٍ. عملت في خدمة البيوت حتّى قطع المرض من جسدها وأكل. وما تبقّى منها شيء وهي لا تزال في الثامنة والأربعين من العمر. كيف لأمٍّ تعيش في هذا البؤس أن تزرع في روح ابنها المحبّة؟ المحبّة الّتي تشكّل نواة أدبه. نبيَّةٌ لصاحبِ “النّبيّ”. إنّها كاملة أمّ جبران خليل جبران.
٤- لطيفة نعيمة:
تبدَّلَتِ الأدوار في بيت نعيمة. والدٌ مُسالمٌ، هادئٌ ووالدةٌ حازمةٌ، حادّة الطِّباع. ولدها الرّقيقُ كنسمةٍ ربيعيّة، ما كان يعصي لها أمرًا. طفلٌ حنَت عليه صخور صنين وربتت على كتفيهِ أشجار الشّخروب العتيقة. تعلّم من والدته الحقّ والحقيقة. كانت لطيفة تنطق بِالْحَقِّ ولو جُزَّت رقبتها. فورث منها ابنها هذه الميزة لكنّه جبلها ببعضٍ من رقّةِ أبيه. إنّه ميخائيل نعيمة.
٥- نايلة ساروفيم:
شاعرة مرهفة الأحاسيس، تتحدّر من عائلة معروفة بمواهبها الشِّعريّة. ابنها “كالقرصعَنّي بين الصّخور”. عصبيُّ المزاج، يغلي كبركانٍ متفجِّر لكنّه سرعانَ ما يهدأ. ما بين انفجاره وسكونه، رفّةُ جفنٍ وشهيقٌ لا يكتمل زفيره. صقلت نايلة منحوتة ولدها الشّعريّة وهذّبت نظمه. فكان الياس أبو شبكة.
٦- دوروثي نجيب دياب:
خليطٌ عجيبٌ أنجب شاعرنا هذا. والدٌ ريفيّ، يمتهن تربية دود القزّ والعناية بأشجار التّوت. والوالدة ابنة صاحب مجلة “مرآة العرب”. طفلٌ أحبَّ أمّه حُبًّا جَمًّا. حتّى أنّه عندما هاجر من قريته إلى الولايات المتّحدة أسوةً برفاق القلم في ذاك العصر وهربًا من “الفأس العثمانية الّتي تسعى إلى احتطابهم”، حجبت دموع عينيه رؤيته للبحر طوال أسابيع. بكى أمّه طوال الرّحلة وربما بكاها طوال حياته. هو إيليا أبو ماضي.
٧- أمُّ الشّاعر الشّاكي:
لم أعثر على اسمها ولا على صورةٍ لها. وعندما زرتُ قريتها، كلّ ما عثرتُ عليه حيطانَ بيتها الخارجيّة، فالدّاخل يعيش فيه أُناسٌ لا ينتمون إلى العائلة. حزينةٌ قِصّتها. تخيّلتُ أغراضها الّتي لم تعد موجودة: جرن الكبّة، الطناجر النّحاسيّة، حبال الغسيل. ورأيتها وهي تعلّقُ على هذه الجدران الصّامدة خيوط البامية والتّين المُجفف. وتساءلتُ: كيف كانت لِتكون؟ تلك الأمّ الّتي فُقِدَ أثرها كليًّا ما عدا ذكرها في قصيدةٍ لابنها:
يا ثلجُ قد ذكّرتني أُمِّي أيّام تقضي اللّيل في همّي
مشغوفةً تحار في ضمّي تحنو عليَّ مخافة البردِ
أمٌّ، فتحَ رشيد أيّوب ديوانه وخلّدها فيه.
في عيد الأمّ، باقةُ تقديرٍ لأمهات الأدباء.