إن عملية إنجاز اللوحة عند هذا الرسام ومن ينحو منحاه، وكما هي عند فناني (رسم الحدث (Tachisme تشكل جزءا جوهريا من متحققها النهائيّ، ومفتاحا مهما لبلورة مقترب دقيق منها، فهو يبدأ عمله أولا، بأن ينقل سطح اللوحة الذي يشتغل عليه، من وضعه الأملس إلى كيفية يتخذ فيها ذلك السطح شكلا خشنا مملوءا : بمتعرجات Meanders وآثار، وما شاءت الصدف من مواد تلقى عليه، لتشكل لعين الرسام (ملمسا) من (مستحـثات) يمكن أن توفر طاقات محفزة لظهور الشرارة التي توقد الرؤيا، فتمنح تلك الآثار طاقة تجعلها قادرة على تلبّس (تحولات شكلية) باتجاه (أشكال مطلقة)، بالمعنى الفلسفي، وليس الهندسي و الطوبولوجي، مما يبعدها عن أية مقارنات أو إحالات إلى أشياء الواقع التي تتخندق ضمن أحد الأشكال ذات المحيط الكفافيّ المماثل في نهاية المطاف.
حاولت مرة اختبار (قانون) مالرو في الفن التشكيلي واندريه مالرو هو وزير الثقافة الفرنسي، أيام حكم الجنرال ديجول، ويقرر (قانونه): “أن الفنان يقلد الطبيعة في مراحله الأولى، بينما يقلد الفن في مراحله المتقدمة” وبذلك يحدد قانون مالرو الفواعل ( الآباء) الثلاثة في العملية الإبداعية الفنية وهي: أولاً، الفنان، وثانياً، الفن الذي يكون مثاله الطبيعة في المراحل الأولى، وثالثاً، العمل الفني، ووضع مالرو الطبيعة باعتبارها المركز المهيمن على العملية الفنية في مراحل الفنان الأولى، بينما يهيمن نسق الفن السائد على تجارب الفنانين في مراحلهم المتقدمة، حيث يبدأ هؤلاء بتقليد الفن حتى عندما يرومون تناول مشخصات الواقع (=الطبيعة) وقد اتخذت وقتها تجربة الرسام عبد الملك عاشور نموذجاً، وكنت قد صنفته مع من أسميتهم رسامي (المفروكات frottahge) فبعد ان قضى سنوات معتكفاً في مرسمه، مع صديق عمره الرسام هاشم حنون، يقلد إشكال مشخصات الواقع، فإذا به يتجه صوب أولئك الرسامين الذين يضعون المادة (=اللون والعناصر المادية الأخرى التي تشكل الواقعة الشيئية للعمل الفني وتكنيكاته المختلفة) يضعونها باعتبارها دافعاً محفزاً لاكتشاف تشكلات صورية، تماماً مثلما نرى أنماطاً من المشخصات في الجدران الرطبة، وفي الغيوم إلا أنه وخلافاً لأولئك الذي لم يزالوا في مراحلهم الأولى، الذين يبحثون عن ما يماثل تلك المفروكات من إشكال الفن ذاته، أي مع انساق الفن المهيمنة، كان يضع المستحثات المحفزة للرؤية على سطح اللوحة لتدله لا على إشكال الطبيعة وإنما على إشكال الفن المهيمنة، وهو ما لمسناه من متابعتنا الحثيثة واللصيقة لتجربة الرسام عبد الملك عاشور، ذلك الرسام الذي تحول الآن إلى نقل منطقة اشتغاله من تقليد أحد عناصر العملية الفنية إلى التوغل في الوجود الشيئي للوحة بحثاً عن التنسيق الفردي، وهجر إتباع المثال (سواء كان مشخصات الطبيعية أو الأنساق المهنية) إلى محاولة أبداع ذلك المثال أولاً، وثانياً جعل لوحته تجربة (أمبريقية) تخضع المادة لها، وتخضع لها كامل الواقعة الشيئية، وبذلك يكون عبد الملك عاشور، قد تمثل التحول الأهم في الرسم الحديث الذي لم يكن إلا اكتشاف (اللون المسطح lacouleurapl) الذي كان الاكتشاف الأكبر للنصف الأول للقرن العشرين والاختراع الكبير لفناني مدرسة باريس، كما يذكر بيرفانكاستيل، فيكون عبد الملك عاشور أذن قد دخل مرحلة أخرى في يتنقل
فيها من مراحله السابقة التي تضع مثالاً خارجياً لها، إلى مرحلة الاشتغال على (اللون المسطح) وتفعيل الواقعة الشيئية باعتبارهما جوهر الرسم الحديث.
في اعماله الأخيرة يعود عبد الملك عاشور الى اشكال الواقع ومشخصاته ليستل منه عينات يحاول مزجها مع متعرجات سطح اللوحة فتبدو لوحته وكأنها مزج لواقعتين يمثل الحلم واقعتها الأولى، ويمثل الواقع ومادياته ومشخصاته واقعتها الثانية..