
“في الزمن الجميل… كانت السياسة نظيفة!”
هذا ما يقوله البعض، وهم يسترجعون صور الزعماء بخلفيةٍ من أناشيد حماسية، ورجال يلوّحون من شرفات القصور، وشوارع يملؤها الهتاف… والسكوت في آنٍ معًا. لكن، هل كانت السياسة في ذلك الزمن جميلة فعلًا؟ أم أن جمالها المزعوم وُلد من فم الصمت، ومن فقر البدائل، ومن خوفٍ تَربّى في العيون؟
-حين كانت الحرية تهمة:
في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلى أوائل الألفية الثالثة، تزامن ما سُمّي بزمن الطرب والأدب والمسرح…مع لحظةٍ سياسية شديدة القسوة. كان بإمكان شاعر أن يُكرَّم في مهرجان رسمي، لكنّه في الغد قد يُعتقل بسبب بيت شعري فُهِم على “وجه غير وطني”.
وكان المثقف يكتب بحبر مزدوج: حبر للرقابة… وحبر يُخبئه في الدرج.
الحرية، في ذلك الزمن، لم تكن مطلبًا… بل كانت تهمة. وكان أصحاب الرأي يُطاردون لا لأنهم خونة، بل لأنهم قالوا ما لا يراد قوله.
-الصحافة… أوراق صفراء على مكاتب الضباط:
الصحف في “الزمن الجميل” كانت تخرج من مطابع وزارة الإعلام، وتُراجع مقالاتها في مكاتب المخابرات. وحتى المقال الذي يصف نهرًا أو زهرة، كان عليه أن يتفادى المبالغة، كي لا يُفسَّر رمزيًا. كان الجميع يعرف أن هناك خطوطًا حمراء، لكن لم يكن أحد يعرف عددها، ولا أماكنها، ولا متى تتغير.
-الراديو (والتلفزيون طبعا) … صوت واحد، وشهقة ممنوعة:
“هنا صوت الأمة”…
كان المذياع يُدخلنا إلى خطاب السلطة، بنبرة واحدة، ورؤية واحدة، ونشيد واحد.
أما الأصوات الأخرى، فكانت تُمنع، أو تُخوّن، أو تُقصى.
الاختلاف السياسي كان يُختزل إلى “انشقاق”، والاحتجاج يُقرأ كـ “عمالة”، وحتى النكتة السياسية كانت تقود إلى الزنزانة. لم تكن الأجهزة الأمنية تلاحق السلاح،
بل تلاحق “النيّات”، وتفتش عن الرأي في الملامح، لا في المنشورات.
-الزعيم… الأب، والظل، والمخرج الوحيد:
كان الزعيم في ذلك الزمن “كليّ الحضور”. صورته على الجدران، صوته في كل نشرة، و”حضوره في اللاوعي الجمعي” أكثر رسوخًا من النشيد الوطني. لكن هذا الحضور، رغم “الكاريزما” أحيانًا، يبتلع المجال العام، ويحول الناس إلى مصفّقين محترفين.
مجلس الشعب مجرد ديكور، والأحزاب تتوالد بالموافقة، والمعارضة إما تحت الأرض… أو تحت الأرض فعلًا.
-الاعتقال… كابوس كان أقرب من الظل:
في زمن المذياع الواحد، كان مجرد توقيع عريضة كفيلًا أن يسحبك إلى دهليز لا يُسأل عنه. وكانت عبارة “فلان اختفى” تعني: أنه تكلّم، أو كتب، أو رفض، أو حتى صمت “في غير وقته”.
قصص الاعتقال في ذلك الزمن ليست استثناءات، بل كانت الوجه الخفيّ للنظام السياسي العربي كله تقريبًا. “مراكز التوقيف” لم تكن أماكن للتحقيق، بل للتأديب، ولم يكن يُطلب من المعتقل أن يعترف، بل أن يصمت إلى الأبد.
-وماذا عن اليوم؟ هل تحرّرنا؟
نعم، تعددت الأصوات، وانتشرت المنصات، ولم تعد السلطة تملك وحدها الميكروفون. لكن، رغم هذا الاتساع…ما زلنا نعيش ارتباكًا سياسيًا حادًا:
ما بين إصلاحات شكلية، وآمال متعثرة، ومناخات رقمية مسمومة، وبين قمع قديم عاد يرتدي ثيابًا جديدة. لم تعد الأغلال حديدًا فحسب، بل صارت خوارزميات، وخوفًا من التشهير، وانقسامًا حدّ الاستنزاف.
-الزمن الجميل؟ في السياسة… لا غالب إلا الخوف…!!
حين نستعيد “الزمن الجميل”، نستعيد الفن، والشارع، والثقافة، والحنين…
لكن السياسة؟ غالبًا ما نغضّ عنها الطرف. ربما لأننا نعرف أنها كانت مُظلمة في وضح النهار، وأن الجمال حينذاك، إن وُجد، فقد كان يزهر رغم السلطة… لا بفضلها.
-خاتمة: ذاكرة منقوصة… وزمن أجمل لم يأتِ بعد:
ليس من العدل أن نُجمّل الماضي دون أن نُراجع وجوهه القاسية، ولا أن نُدينه بالكامل دون أن نفهم سياقه. لكنّ السياسة، كما تُمارَس اليوم وكما كانت، تبقى دليلًا صريحًا على أن “الزمن الجميل” ربما لم يكن جميلاً إلا لمن لم يكتب، ولم يتكلم، ولم يُسأل عن رأيه…!!