السّابع عشر من تشرين
هذا التّاريخ! هو ذكرى تَبَلُّج ميخائيل نعيمة طفلًا على هذه “الأرض البديعة الكريمة الحنون” عام ١٨٨٩ وذكرى رحيل “زهرة الحلم” النسائيّة العربيّة المُثقّفة، مَي زيادة عام ١٩٤١ وإنصافها من هذه الحياة. إذن هذا التّاريخ للبنان ذكرى ولادة وموتٍ في آن.
ما ذكرَ نعيمة مَيًّا قطّ. لا في كتبه أو مقالاته أو مقابلاته أو رسائله. ورغم صداقته “بشقيقِ روحه” جبران- وهو تعبيرٌ له في كتابه “جبران خليل جبران”- إلّا أنّه لم يذكر علاقة مَي وجبران إلّا بجملةٍ واحدة مُفادُها :” وعندما دخل غرفته، وجد على الطاولة رسالة مختومة. تفحّص الخطّ على غلافها فلم يعرفه. ففضّها وإذا بها عربيّة من فتاةٍ لبنانيّة ما سبق له أن سمع حتّى باسمها.” لماذا لم يذكر نعيمة اسم مَي زيادة في كتابه عن جبران رغم أنّه فصّل علاقته بماري هاسكل وميشلين؟ أَلِأنّها شرقيّة؟ وهو المعروف بأخلاقه الدمثة. السرّ مع نعيمة ينام قربه في ضريحه في الشّخروب.
وإن وضعنا جانبًا علاقة جبران بمَيْ، لماذا لم يتواصل ميخائيل معها كأديبة ورائدة؟ ومن جهتها، لماذا لم تراسل مَي نعيمة رغم تألّقها في أدب الرّسائل. ما تركت مَي علمًا من أعلام عصرها إلّا وراسلته حتّى الأدنى مستوًى أدبيًّا من ميخائيل نعيمة. لماذا إذن هذا التّجاهل؟ غريبٌ بالفعل!
جمعتِ النّاصرة، فلسطين ميخائيل نعيمة ومَي زيادة فترةً من الزّمن، من العام ١٩٠٣ حتى ١٩٠٦ إلّا أنّهما ما التقيا قطّ. لكأنّ هذه الفتاة اللّبنانيّة ما قُدِّرَ لها سوى الدوران في أفلاكِ إخوانها في المواطنة من الأدباء. كيف تجتمع بميخائيل؟ هو الفتى الفقير القادم من بسكنتا وفي جيبه مجيديٌّ واحدٌ لطالما قطع النّدم من روحه وأكل لأنّه لم يتركه لعائلته المكوّنة من ثمانية أشخاصٍ، يلتفّون حول طفل بيتهم القرويّ “نجيب” ليُدفئونه ويحمونه من برد بسكنتا القارص. كيف لمن يدرس في المدرسة المسكويية الدّاخليّة أن يتعثّر ولو صدفةً بعربةِ أجمل فتاةٍ في النّاصرة، وحيدة عائلتها الّتي تدرس في الدير؟ شتّانَ ما بين ميخائيل وماري. شتّانَ ما بين بسكنتا وشحتول. شتّانَ ما بين والدٍ فلّاحٍ ومهاجر وما بين أبٍ مُدرِّسٍ في أرقى مدارس لبنان وفلسطين. شتّانَ ما بين والدةٍ تستعين بمسبحتها الورديّة لتُعيلَ عائلتها الكبيرة وما بين أُمٍّ مثقفة تجمع في صالونها الأدبيّ رائدات فلسطين. شتّانَ ما بين ميخائيل الّذي نام في خيمةٍ على الشّاطئ وبرتِ الطرقات والدروب نَعلَيه وسال لعابه على “كمشة لبنة مُعلّقة في كيس”، وما بين مَيْ الّتي تنقّلت كالفراشة بين دروس الموسيقى واللّغات. شتّانَ ما بين “طبليّة” عائلة نعيمة في بسكنتا ومائدة الطّعام المُزخرفة لعائلة زيادة في الناصرة.
هو السّابع عشر من تشرين، في مثل هذا اليوم تنبّأ ميخائيل نعيمة بولادته الّذي لم يُدَوَّن لا عند خوري المعموديّة ولا عند المختار وما كتبه والده على قطعة ورقة وما حفظته أمّه في ذاكرتها. هذا التاريخ كان عمليّةً حسابيّةً ما بين تاريخ سفر والده إلى أميركا وهو يبلغ من العمر عشرة شهورًا وما بين تاريخ وفاة عمته في شهرَي الذبيح وقبل عيد “مار مخايل”. إلّا أنّ ما أكّد يوم مولده مُجرّد حلم. فقد استيقظ ميخائيل ذات يوم وقد حلم ب١٧ تشرين الأوّل باللّغة الإنكليزية “17 October”. حلمٌ لم يُراود ميخائيل وحده بل اللّبنانيين جميعًا.
هو السّابع عشر من تشرين الأوّل عام ١٩٤١، ميخائيل البالغ من العمر ٥٢ عامًا، يجلس بين صخور صنين، يتسامى مع العصافير، يتواضع مع التراب، يتصافى مع الزّهيرات وينعزل عن العالم بانيًا أعشاشًا لروحه بين الشّقوق. يُناديهِ أخوه نجيب ليتناولَ طعام الغداء وفي يده جريدة يفترشها على الأرض ليضعَ عليها رؤوس البصل والفجل وصحن المجدرة فيلمع رأسه بخبرٍ مكتوبٍ عليها بخطٍّ أسود قاتم: “وافتِ المنيّة الأديبة اللّبنانيّة الفلسطينيّة مَي زيادة في مصر… وبأحرفٍ سرّيّة غير مقروءة، أكمل الخبر جملته ” وما مَشِيَ في جنازتها سوى ثلاثة أشخاص وقد وُرِيت الثّرى في المقبرة القبطيّة وحيدةً وبعد سنواتٍ عديدة سيُهدَمُ ضريحها وسيُنقَل جثمانها إلى مقبرةٍ صغيرة بالكاد كُتِبَ عليها: هنا ترقدُ مَيْ زيادة.
في ذكرى السّابع عشر من تشرين الحلم، الولادة، الوفاة.