لن نعيد اليوم الحديث عن الكتب الصديقة، التي ميّزناها عن الكتب الطاردة، وإنما سنتحدث عن الصداقة مع القراءة ذاتها، كطقوس وأجواء. صحيح أن الكتب هي موضوع الصداقة، ولكن مارسيل بروست في كتابه «أيام القراءة» لا يخصّ كتباً بعينها، ليضعها في خانة «الكتب الصديقة»، وإنما يتحدث عن صداقته مع القراءة نفسها، وصداقتها هي معه، عاقداً المقارنة بينها والصداقة مع البشر، فالأخيرة لا تخلو من مقادير من المجاملة والمدارة، وتؤسس «لشبكة من العادات لا يمكننا التخلص منها في الصداقات التالية»، أما في القراءة فإن الصداقة ترجع «إلى نقائها الأولي»، فإذا اعتبرنا الكتب بمكانة أصدقاء، فإننا إذ نقضي السهرة معهم؛ لا نفعل ذلك من باب الواجب أو ردّ الجميل، إننا نسهر مع القراءة، لأننا رغبنا في ذلك حقاً، ونحن لا نتركها في الغالب إلا آسفين.
في حال مثل هذه، حال ترك كتاب سهرنا معه، لن نشعر بتلك الظنون والأفكار التي «قد تفسد الصداقة»، والتي قد تساورنا بعد سهرة مع الأصدقاء. ويعطي بروست أمثلة على أسئلة تراودنا بعد انتهاء هذا النوع من سهرات الأصدقاء: «ما رأيهم فينا؟، ألم نفتقر إلى اللياقة؟، هل نلنا الإعجاب؟»، قبل أن يضيف «كل انفعالات الصداقة تلك تنتهي على عتبة هذه الصداقة النقيّة والهادئة التي هي القراءة. نحن لا نضحك مما يقول موليير إلا عندما نجده مضحكاً، وعندما يُشعرنا بالضجر لا نخشى أن نبدو ضجرين، وعندما نملّ صحبته نعيده إلى مكانه بلا مراعاة، كما لو أنه لا يملك أي عبقرية أو شهرة»، وهي كلها أمور يصعب الإتيان بها لو تحدثنا عن صداقتنا مع البشر، فلن يكون من اللائق أن نبدو، أمامهم، ضجرين من حديثهم، أو لا نفتعل الضحك من طرفة قالوها لم تحملنا على الضحك، أو نغادر المكان في اللحظة التي نشاء، تاركين إياهم لوحدهم.
صداقة القراءة النقية، تتيح لنا ميزة أخرى لن نجد نظيرها في صداقتنا مع البشر، هي «الصمت الأنقى من الكلام. لأننا نتكلم لأجل الآخرين، ولكن نصمت لأجل أنفسنا، فالصمت لا يحمل كالكلام آثار عيوبنا.. آثار تكشيراتنا، إنه نقي». نحن لا نضحك من مشهد قرأناه مجاملة لكاتبه، فهو لا يعلم بأمر ضحكنا، ليس فقط لأننا لا نعرفه ولا يعرفنا، وإنما لأنه قد يكون مات قبل عقود أو حتى قرون، ولا نحزن من مشهد آخر، لأننا سنبلغ كاتبه يوماً أنه رسم هذا المشهد بطريقة مؤثرة أثارت إعجابنا وتأثرنا، فنحن أيضاً لا نعرف الكاتب، وحتى لو كان حياً فقد لا نلتقي به أبداً.
د. حسن مدن ل صحيفة الخليج