لا فرق بين كلمة عربية فصيحة، وكلمةعربية محكية (عامية) في بلورة المعنى، وخلق محكيات ذهنية تُضَخ من طاقة الكلمة فتمنح البؤرة الذهنية تصور مستهدف وواعي من الشاعر، فقد كتب الشاعر بدر شاكر السياب قصيدته العربية(غريب على الخليج) بالكلمات الفصيحة البليغة،وبلغة الشعر العالية:
بين العيون الأجنبية بين احتقارٍ، وازورارٍأو (خطية)، والموت أهون من (خطية)، فلم تسعفه الكلمات الفصيحة، كما اسعفته الكلمة العامية (خطية) والتي تعني باللهجة العامية العراقية (مسكين)، لذا فأن للكلمة المحكية طاقة نفسية تعمل على ضخ انبعاثات روحية، وفنية، وعقلية قادرة على التأثير في تفكير المتلقي، وتشحذ ذكرياته، فترسم صورة مخيالاتية، توقع المتلقي في وهم عالم مختلق من الشاعر، تسكن اليه النفس وتسد حاجاتها، ومن تصميم عنوان الديوان (تيميّات- أول قطفة) وعند العروج الى معجم لسان العرب فأن تيم هو موضع، واهل لبنان يطلقون على الموضع (وادي تيم)، امّا (أول قطفه) تعني الثمار الناضجة في أول قطافها، لكن الشاعر لا يعني القطاف الذي يحمل معنى اقتطاف الثمر(معنى يحمل الصمت)، انما عنى الحركة والضجيح فيه بالاستشهادات أو اقتباسات الواقع المعيش، فيأتي تأويل المعنى مأزوم لا يفهم فلسفته الا بدمج كلمات الديوان (تيميات اول قطفة) محدثاً انفجاراً لغوياً يشي بطاقة الكلمة بمجمل انبعاثاتها؛ أي ان الشاعر عنى ومن اول وهلة انه سوف يبوح بأسرار أَحبَهَا مقتطفه من واقعه.
ومن عنوان الشاعر أول قطفة يبتدأ بالطعم الأول (وطنية اجتماعية) تسلسل منها العنوانات الثانوية، كان الأول منها: (بدايتي) حيث تظهر أهمية الكلمة التي تعمل على تذويب الجسد لخلق صورة الشعر، حيث اصبح الشاعر يهيئ افكاره النورانية لتكتب بلغة (لهيب النار) وهي كناية عن (حرقة القلب) وهو الفعل / السبب؛ فتحول عمره الى رماد (وهو نتاج الحرقة)، فاخذت كلمة (قدامي) انبعاثا فنياً، يرسم صورته الشخصية المحطمة بآمالها، فتتحول عبر الصورة الذهنية، التقاطه لصورة فوتوغرافية جمدت الزمان والمكان (صورة شعر بروازها عظامي) وهي القطفة الأولى الموحية لأسرار هموم الشاعر ومحل اوجاعه، وهي الطاقة الأعلى التي تخفي ورائها اسرار البوح التفصيلي الدقيق والمنتظم الذي سوف يعرج اليه الشاعر تراتبياً.
اولاً : (الى روح امي)
قد امتاز الشاعر بوضعه عنوانات تحمل مضامين محتوى قصائده، فضلا عن ما تتميز به القصائد، من القصر، والسهولة لأنها تحكى باللهجة المحكية التي تكون الأقرب للنفس والأكثر وقعا في القلب، تنبض القصيدة: بنفحات الحب، والشكر لله، وفضل الأم، لكن كلمات الطاقة العليا لا تبتعد عن المضمون حيث تغذي القصيدة بالهم الأول :
كتبت القصايد والجفن بكيت
والدمــــــــــــــــع بعدو مْعلّم بْكمّي
……………
وبلشت اكتب مـــــــــــــن حبــــر هَمّي
بلكي حْروفي بتسمعي بشي بيت
تاعيّد عليكي وعلــــــــــــــــــــــــــى كل إم
ريتك معـــــــــــــــــــــــــــي بهالعيد يا أمي
لا تنزع الصورة الذهنية النورانية عن فكر الشاعر فلا زالت تلاحقه (الكُم الذي اشعل قوافي الشعر بنور الأفكار)، يأتي بطاقة تفاعلية تغذي (الكُم) في قصيدة الأم حيث اصبح الكُم مملوء بالدمع . (الدمع، والنور) بواعث سببية تشي بالاحتراق النفسي، لكنها ليست كسابقتها (بدايتي) ترسم صورة فوتوغرافية، انما تظهر مكان الألفة الأول(الأم)، وعند الابتعاد عنه يظل الشاعر يستعيده بالحسرة ووجع الفقد والغياب، فتظهر طاقة العجز الذي تملأ به الحروف التي لا تسعفه، ولو غذتها محبرته النفسية (الهموم).
ثانياً: (بيي)
يسترسل الشاعر عبر نقلات منطقية نفسية متسلسلة لا يبتعد فيه عن مكان الألفة الأول (الأب)؛ لكن طاقة الكلمة توحي الى القدرة التكوينية عبر عملية رسم صورة الأبن الذي يشبه اباه:
لكن أنا معرفت حالي مين
تا طلعت الصورة وجه بيي[1]
فتبين جذوره الجينية ومرجعيات الأنثروبولوجيا التي رسمت على وجه الشاعر حتى وجد نفسه على الورقة صورة الأب.
ثالثاً: قصة شعب
ادرك سليمان قاسم اهمية وقع الكلمة المحكية واثرها في البوح عند المتلقي؛ باقتناصه احداث غارقة بالمعاني والدلالات، فترسم صورة ذهنية عن تاريخ وطن لا تحده الحدود فأرضه مترامية الاطراف وسكانه متنوعون في اعراقهم ودياناتهم يجمعهم وجع واحد، ويبدأ بإعلان أسباب سموم الوطن وهو منتج عقلي طبيعي لطاقة الكلمة النفسية العالية:
قالوا البشر عِنا وطن مَسموم
تتعدى كلمة (وطن مسموم ) الحدود الجغرافية اللبنانية، عندما استحضر سكان الأرض العربية بأكملها؛ ذلك بما امدت طاقة الكلمة كل أجزاء القصيدة بمعانيها، واخذ الشاعر يتطرق لهموم الأوطان العربية بشكل تفصيلي تتابعي، فعندما يرتبط الجزء مع الكل يكتمل البناء الموضوعي للقصيدة، مشكلا سلسلة تكشف عن هموم الأوطان في عقد واحد، ينجذب اليه المتلقي بمعانيه التثويرية وبطاقة الكلمة العالية التي تتعدى بها حدود القصيدة الواحدة الى قصيدة(باب الأمل)، كما تعدى حدود الوطن في القصيدة السابقة، ليصبح(شاعر الحب)، وجوازه (جنسية الحب)، وعقيدته(الحرية) .
فاجتمعت في (تيميةأول قطفة- وطنية اجتماعية) طاقة الكلمة الروحية والنفسية المثقلة بالألم، والشجن، والحنين الى مكان الألفة الأول، والذي جمع (الأم، والأب)، اللذان يمثلان بطاقتهما الكلمية الروحية حب الوطن والتعلق به من جهة؛ لأن الأم مدرسة اذا اعددتها اعدت شعبا طيب الأعراق، والأب هو عمود الخيمة الرئيس المشترك مع الأم، حيث يحنوان علىاولادهم/ الشعب، من قساوة العيش، فضلا عن ما للبيت من أهمية بوجودهما ليكون مكان للقرى والكرم والإستقرار، فيكونا(الأم ، والأب) جزء من هويتنا الإجتماعية التي نضوي تحت خيمتها، ومن جهة اخرى كيف اذابته هموم الوطن رماداً، الذي لايقتصر على لبنان انما يتعداه لتكون الأرض العربية موحدة لا تفصلها الحدود ولا الأعراق ولا العقائد، فكان للهم والوجع منشأ واحد وهو قلاب الشاعر لرجل الحر.