صدر للكاتب خضير فليح الزيدي رواية بعنوان ( بنات غائب طعمة فرمان ) عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع في تونس لعام 2023 ، حيث تعد هذه الرواية من الروايات المهمة والكبيرة التي استطاع من خلالها الكاتب الزيدي ان يخرج من المحلية الى العربية لما تحتويه هذه الرواية من اشتغال فني مغاير ومختلف على مستوى أساليب فنية متعددة تخص نمطية طرح القصص والحكايات والأحداث التي تعامل معها الزيدي بحرفية عالية جدا ، بالإضافة الى استخدام تراكيب لغوية متعددة وحبكة فنية ( مركبة ) .
من الطبيعي أن نعتبر عنوان الرواية هو المفتاح الرئيسي للولوج الى عالم النص ، وكي يقوم الزيدي بإقناع القارئ على مستوى العنوان أوضح لنا من خلال شخصية دلال ان غائب فرمان هو أب روحي لبنات البيرقدار وكذلك المخطوطة التي أكملها هاني بارت اشارت اليها دلال انها تعني بنات العراق المعذبات / بنات غائب فرمان / بنات البيرقدار بشكل حقيقي ليأتي عنوان الرواية هنا كحالة طرح مجازي له دلالة واضحة ورابط جدلي بين ذلك العنوان والمتن النصي .
يعتبر الجانب الافتراضي والتخيلي العمود الفقري الذي بني عليه هيكل الرواية ، ويعد هذا النمط من الإشتغالات الصعبة التي لايجيدها إلا من يمتلك الخبرة الفائقة والدراية العالية في طبيعة السرد الروائي ، بعد ان اصبح الخيال في هذه الرواية عنصرا مهما في تثوير درامية المشاهد السردية .
وتعتبر شخصية الكاتب الروائي غائب طعمة فرمان المحور الرئيسي الذي تدور حوله جميع الأحداث المتباينة والمختلفة بعد ان ارتبطت جميع خيوط السرد بهذه الشخصية التي اشار لها في جميع مفاصل الرواية وفق جانبين مهمين ، الجانب الأول هو توظيف هذه الشخصية باعتبارها قامة روائية معروفة ومصنفة في المشهد الروائي العراقي والجانب الثاني هو توظيفها كشخصية من شخصيات الكاتب خضير فليح الزيدي ، ويتداخل هذان الجانب وينصهران بطريقة الإفتراض والتخيّل الذي اشرنا اليه في اعلاه حين تتمظهر تجليات اللامعقول في الفضاء الروائي ، وتجدر الإشارة هنا الى الإستهلال الذي قدمه الزيدي في بداية الرواية وهو مشهد إقامة العزاء للكاتب ( فرمان ) وهذه اشارة تفسر من قبل القارئ بأن هذه الشخصية هي شخصية روائي معروف وفي مشاهد اخرى يشير كاتب الرواية الى ذات باعتبارها واحدة من شخصياته المهة ( انني لم امت بل اختلقت خبر موتي ) وهذا افتراض واضح كون ( فرمان ) مات بشكل حقيقي منذ سنوات طويلة .
هناك ستة جوانب مهمة داخل الاشتغال الفني في طبيعة السرد شكلت نموا واضحا لفاعلية المشاهد بشكل عام وكما يلي :
اولا / مشاهد سردية عن موت غائب طعمة فرمان في الوقت الراهن ( موت افتراضي ) بعد أن نوه الكاتب عن إقامة عزاء له حضره العديد من الشخصيات باستثناء شخصيات ( فرمان ) الروائية .
ثانيا / مشاهد سردية عن موت غائب طعمة فرمان في موسكو في فترة التسعينات من القرن الماضي .
ثالثا / مشاهد سردية تتحدث عن حضور غائب طعمة فرمان بعد سماع خبر موته بسبب إقامة العزاء له .
رابعا / مشاهد سردية تتحدث عن (غياب ) غائب طعمة فرمان في بغداد بعد حضوره الإفتراضي .
خامسا / مشاهد سردية تتحدث عن حوار بين غائب طعمة فرمان وبعض من شخصياته الروائية .
سادسا / استنطاق شخصيات فرمان الروائية وإسقاط حوارها على الراهن الذي نعيشه الآن .
ان مزاوجة الاشتغال الفني بين هذه الجوانب من خلال الخيال ومفارقة الزمن الافتراضي وإسقاط حوار الشخصيات على الراهن المعيش جعل الرواية تمتاز بحبكة فنية مركبة وتشويق عالي المستوى ، سيما وان صياغة الثنائيات المتضادة والمتناقضة وانصهارها فيما بينها يعد من أصعب الاشتغالات الفنية في هذه الرواية بعد ان وصل الكاتب الى درجة عالية من الإقناع في استحضار شخصيات فرمان واستنطاقها وتوظيق مقارنة بين زمنين مختلفين ، زمن غائب فرمان والزمن الراهن ( السواد لغتنا السائدة وهو اللون الآمن في بغداد اليوم ) .
فتارة نجد السرد يتجه نحو تبيان شخصية فرمان الروائية وحياته ومماته وتارة اخرى نلاحظ الدخول في استنطاق شخصيات غائب طعمة فرمان في رواياته السابقة .
ان هذا التنافر والتجاذب المختلف في المشاهد السردية حول توظيف هذه الشخصية اطره الكاتب بطريقة درامية ذات خط بياني متصاعد ولعل اكثر الصعوبة التي يواجهها الكاتب في مثل هكذا جوانب فنية هو صياغة الأحداث والتنقل فيما بينها بنسق سردي محبوك فنيا وكذلك لملمة الأحداث للخروج بنتيجة مقنعة أمام القارئ وهذا ما اجاده الكاتب بشكل لافت للانتباه .
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو كيف يتعامل القارئ مع شخصية غائب طعمة فرمان في هذه الرواية سيما وان الكاتب تقصد في اخفاء المعلومة عن القارئ في بادئ الأمر ؟
عند قراءة الرواية يتلمس القارئ بشكل جلي وجود انشطار واضح في شخصية غائب طعمة فرمان فالكاتب يشير بشكل دقيق الى فرمان الروائي المعروف من خلال سرد انا الكاتب ، بينما يشير الى ذات الشخصية باعتبارها احدى شخصياته في الرواية من خلال المنولوج الداخلي ، وايضا حوار الشخصيات الخاصة بروايات فرمان السالفة التي استنطقها ووظفها الكاتب في العديد من المشاهد السردية ، وهذا التباين بين الشخصيتين جعل الكاتب الزيدي ان يعمد الى الإقتراب من اسلوب السرد التناوبي كي يجعل التقابل والتفاعل بين تلك الشخصيتين مقبولا من الناحية الفنية والتوظيفية .
ان عنصر المفارقة والإدهاش كان حاضرا بقوة في هذه الرواية عبر التوظيف الدقيق لمفردة الإسم ( غائب ) حيث شكلت هذه المفردة حالة من حالات التجذر في مخيلة القارئ واستطاع الكاتب أن يثني هذه المفردة ويطوعها بمعان عديدة في العديد من المشاهد السردية بطريقة فنية ذات دلالات متعددة فمفردة ( غائب ) تعني بداية الأسم الصريح للشخصية وكذلك تعني أيضا الغياب عن بلده بعد أن هاجر غائب طعمة فرمان الى موسكو وايضا غيابه هناك عن الحياة قبل فترة زمنية بعيدة وغيابه مرة اخرى بعد وجوده الإفتراضي في بغداد بعد ان سمع بخبر موته ( الافتراضي ) وايضا وجود هذه المفردة في العنونة له دلالة نصية واسعة في الرواية بشكل عام بعد ان اشار الكاتب الى ان بنات البيرقدار يعتبرن فرمان هو الأب الروحي لهن .
دوّن الكاتب خضير فليح الزيدي حوارات سردية تتصف بالغرائبية بين ( انا الشخصية / حوار ذاتي لشخصية فرمان وبين شخصيات فرمان في رواياته وهذا ما جعل هذه الشخصيات قابلة للتطويع في هذه الرواية ( بنات غائب طعمة فرمان ) بمعنى ان الكاتب استطاع ان يولد فكرة تفاعلية في ذهن القارئ بين هذين الجانبين ( فرمان الروائي وفرمان الشخصية وشخصيات فرمان الروائية ) وهذا هو اصعب اشتغال فني في هذه الرواية وقد يكون ثقيلا على ذهن القارئ العادي ، ولكن من يتمعن قليلا في هذه الرواية يستطيع فهم مايصبو اليه الزيدي في ان عالم غائب طعمة فرمان هو عالم مختلف وإسقاط حوارات فنية افتراضية على الراهن يشعرك بالمتغيرات العديدة في هذه الحياة طبقا على ما طرأ على راهننا الحالي .
ان الإبداع المتخيل والافتراضي في هذه الرواية يرصد عوالم عديدة على مستوى التناقض والإختلاف في حياة الإنسان واستذكر هنا مقولة للكاتب عبد الرزاق قرنح حين يقول ( إن الخيال احيانا يجبرنا ويعلمنا ما حدث بالفعل اكثر من الواقع ) . واكون مضطرا هنا الى إسقاط هذه المقولة على الاشتغال الفني المتفرد في هذه الرواية بعد ان ألمح الكاتب عن طريق احدى الشخصيات من ان لاوجود لغائب فرمان خارج روايته ويقصد ( الرواية التي لم تكتمل بعد ) وتجدر الإشارة هنا الى النسخة المخطوطة التي جاءت بها دلال ابنة البيرقدار والذي بدأ بإكمالها هاني بارت وهي رواية الغاية منها تخليد اسم العائلة .
في نهاية الرواية اسخدم الكاتب خضير فليح الزيدي اسلوب ( السيرفكشن ) عندما اوحى هاني بارت للمحقق بان اسمه هاني بارت وعندما الح عليه المحقق قال ان اسمه غائب طعمة فرمان ثم انكر ذلك ليتلفظ اخيرا بانه كاتب رواية تحمل عنوان ( بنات غائب طعمة فرمان ) وهنا اشارة واضحة الى شخصية كاتب هذه الرواية حين دخل في عمق الرواية حيث الانعكاسية الذاتية وتذويب شخصيته داخل الاشتغال العام للرواية .
ان الهدف من هذه الرواية هوعكس الواقع من خلال تلك الشخصيات المستنطقة بعد أن قدم لنا الكاتب مقارنة ومفارقة بذات الوقت بين الطبقات الأرستقراطية وبين الطبقات الفقيرة عبر زمن افتراضي بعد ان تعمق الكاتب بالخيال عبر الحوارات الفنتازيا التي دارت بين شخصيات فرمان الرواية .