قرأت قصيدة الشاعر محمد حبلص”أنا المزن”. وقبلها ، أنا المؤلف، فتساءلت في دهشة ديكارتيّة الصفات: أيكون الشاعر الحبلصيّ قد أدرك ذاته، استجابة لطلب الفيلسوف الإغريقيّ سقراط، أم هي نرجسيّة تجاوزت الذات إلی الذات الكبری، والجوهرود ؟
أنا المزن قصيدة الحلوليّة في عنصر راقٍ هو السحاب والسحاب دليل شموخ وعطاء.
والشاعر محمد حبلص يعطي من فوق. واللافت في عطائه أنّه بلا تمييز.
السحاب يمطر علی الأخيار والأشرار. والشاعر يمطر شعراً جميع الناس، بلا حساب.
السحاب الممطر يحوّل الأرض الصحراء إلی واحة خضراء. والشاعر يمنح، عبر الشعر، المعرفة والثقافة للقارئ. وقد يتحوّل مطر شعره إلی سيول تجرف الحقد والأنانيّة من صغار النفوس.
الشاعر نسر محلّق في الأعالي، لا يعبأ بالغربان والزرازير. عرش الشاعر/ النسر ، حيث الشموخ والعنفوان. والجحور المظلمة سجن الحاسدين والحاقدين.
ونسأل الشاعر: ما علاقة السحاب بالحرب؟ ويأتينا جواب هو بعض الجواب: قد يتحوّل السحاب إلی مطر جارف يأتي بالطوفان. ولا فُلكَ تقي الفاسدين من الفناء.
في شعر حبلص ملحمةُ ذاتٍ تبحث عن ذاتها. ولا سكون قبل الانتصار.
ملحمة الشاعر الحبلصيّ جديرة بالقراءة بشكل عموديّ من أسفل إلی أعلی، حين يرتفع بخار الماء ليتشكّل سحاباً ممطراً، أو مبشّراً بالمطر. إنها مرحلة ولادة الشاعر في رحم الشعر .
عظيم هذا التسامي، بفعل حرارة الإيمان بالشعر الفعل. الشعر الذي يسمو بصاحبه، إلی منزلة نصف إله.
أما الحركة المعاكسة فهي من فوق إلی أسفل. وهي مرحلة العطاء الشعري. في هذه المرحلة يصبح الشاعر مصلحاً اجتماعيّاً، في ثورته علی صغر النفس والحقارة.
في ثنائيّة الرحلة الشاعرية صعوداً ونزولاً فخر بالذات التي تعي ذاتها، وتعلم علم اليقين أن انتصارها لا يمكن أن يتحقّق إلا بالشعر، والحبّ، الإيمان.
والإيمان الحبلصيّ مثلّث الأبعاد: إيمان بالذات نتيجة المعرفة السقراطيّة:معرفة الذات. والإيمان بالشعر أنّه المنقذ الوحيد للشاعر، ولقومه، من القحطين الروحيّ والمعرفيّ.وبذلك يصبح الشاعر أشبه بالأنبياء، في دعواته للإصلاح والتسامي ونبذ الأحقاد. والإيمان بالوطن لأنّ الشاعر لا يقبل عن الوطن بديلاً. وهو لن يتركه في محنته الحاضرة، ولن يغادره إلی أرض الغربة، كما يفعل الكثيرون. بل سيبقی وفيّاً لوطنه، مدافعاً عنه، حتی الاستشهاد.
هذا الإيمان بالوطن جعلنا نفهم جانباً غير مُدرَك من شخصيّة الشاعر في فخره وتعاليه. فالشاعر ليس نرجسيّاً، كما يحاول أن يكشف لنا في القصيدة. إنه يرفع نفسه ، في محاولة للدفاع عن الذات. وقد تصبح ذاته الشامخة رمزاً للوطن. وبذلك تصبح المعادلة الجديدة: أنا المزن تساوي وطني المزن. هذا الوطن الذي تغنّی به الشعراء والكتّاب، أرض الشاعر وسماؤه الجديدتان. وفي هذه الأرض، يتحوّل المطر إلی دماء الشهادة التي تساوی بها علم العلماء.
إشكاليّة الأنا قديمة العهد، عميقة الجذور، في التراث الشعريّ العربي. فهذا المتنبي يفاخر بأناه ويقول:
أنا الذي نظر الأعمی إلی أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول في مكان آخر;
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وقبله تباهی الشاعر الأخطل التغلبيّ بنفسه، إذ شرب الخمر فقال:
إذا ما نديمي علّني ثم علّني
ثلاث زجاجات لهنّ هدير
خرجت أجرّ الذيل أزهو كأنني
عليك أمير المؤمنين أمير
فإذا كان المتنبي اجترح المعجزات بشعره، فجعل الأعمی يُبصر، والأصمّ يسمع، فإن الشاعر الحبلصي استطاع بمعجزة شعره أن يحيي الأرض الموات، ويبعث فيها الخصب والنماء. وهذا ما جعله إلها للخصب، كما في الأساطير القديمة.
أما الزجاجات الثلاث التي شربها الشاعر التغلبيّ فقد تحوّلت إلی زجاجات نفسيّة أعلنها الشاعر محمد حبلص.
الزجاجة الأولی هي تجسيد لنرجسيّة الأنا، في ذاته الصغری، في مواجهة الأنا الكبری، أنا الجماعة ، ضمن ثنائيّات العطاء والبخل، الخصب والجفاف، الحياة والموت.
أما الزجاجة الثانية فهي فعل التحدّي وقد عبّر عنه الشاعر عبر المواجهة العسكريّة الافتراضيّة في معارك دونكيشوتيّة بامتياز. وهذه المعارك أرادها الشاعر علی المستويين الاجتماعيّ والأدبيّ الشعريّ. وكأنّه شعر بالآخر يحاول التضييق عليه، فثارت كرامته، وأعلن الحرب بلا هوادة، عبر ثنائيّة العظمة والحقارة. هو عظيم، كالصقر في الأعالي، أما الآخر فهو يقيم في وجار الضعة والضعف. هو الصخر العظيم، والآخرون كالحصی الصغيرة، نفوس صغيرة تافهة. وهذا ما يقودنا إلی الزجاجة الثالثة وهي زجاجة التحليل النفسي للشاعر. فنراه يعاني عقداً نفسيّة يمكن اختصارها في ثلاث:
عقدة جنون العظمة، بحيث يری نفسه في مصاف أنصاف الآلهة، أمّا الآخرون فهم فاقدو الحجا والألباب. وعقدة الاضطهاد التي ظهرت في حروبه العسكرية والشعريّة المتخيّلة دفاع عن الذات في وجه من بنوا في طريقه جدران حقد وأسوار حصار.
أما العقدة الثالثة فهي النرجسيّة التي ذكرناها في بداية القراءة، بحيث طغی ضمير المتكلّم علی القصيدة بأكملها، خصوصاً ضمير الفاعليّة التاء(25مرة)، وضمير الياء في حال الخفض والجرّ(20مرة)
وهذه الضمائر تؤكّد أن نرجسيّة الشاعر كانت فعل تحدٍّ، أو دفاعاً عن النفس في مواجهة محاولات الإلغاء، أو التهميش. كذلك أسهمت التعابير والصفات الواردة في القصيدة، في كشف معالم هذه النرجسيّة النفسيّة، ضمن ثنائيّة العظمة والضعف. ومن أبرز هذه الإشارات الدالّةقول الشاعر:
تميّزت عن كلّ الأنام غرارا…
وأحيا قريضي في القريضِ قِفارا
أنا المُزْنُ ، ما أمطرتُ إلاّ مُحلِّقاً
سقيتُ نباتاً يابساً فأنارا
وكأنّ الشاعر محمد حبلص ، عبر نرجسيّته والفخر بالذات، يرسم صورة مشرّفة للإنسان اللبناني الصامد في أرضه والمقاوم، في مواجهة الحرب التي فُرضت علی الوطن. صموده ثورة ووفاء ، متجذّر في أرضه حتی الاستشهاد. يقول في خاتمة قصيدته:
تجذّرتُ في لبنانَ ، ما خُنتُ ماءَهُ
وغيرَ دياري ما رضيتُ ديارا
محمد حبلص، لن يخدعنا فخرك بالذات. ولن نصدّق ما حاولت إعلانه في قصيدتك من مشاعر العظمة والنرجسيّة أو الشعور بالاضطهاد. فذاتك المفتخرة بذاتها ليست سوی الوطن، تنطق بلسانه. هو مطرنا جميعاً، وهو عزّتنا ومصدر كل حياة. إن اقتُلعنا منه فقدنا الحياة والشرف والكرامة.
قصيدة أنا المزن، للشاعر محمد حبلص، هي قصيدة الخلق الثاني، لأنّ الإنسان الأوّل الذي أعاد الشاعر نظمه قصيدة من جديد، لم يُطرد من الجنّة عقاباً له علی العصيان، بل نزل بإرادته كي يحوّل وطنه إلی جنّة جديدة علی مستوی طموحاته والأحلام.
والسلام.