د. واثق الحسناوي || كاتب عراقي لموقع نخيل عراقي
لاشكَّ إنَّ السرد وسيلةٌ ادبية خطابية ارسالية ورسالية تصويرية ارشيفية ترفيهية اغوائية ، قد تكون عجائبية او غرائبية او واقعية ، يستمدُ جذوره من عمق التاريخ او واقع الحياة المعاش او مخيال ابعد من المنطق، ومن اخلاط المجتمعات، وتنوع الثقافات والافكار وتعدد الصياغات والآليات والاشتراطات وتفنن الاساليب … والساردُ المبدع ، الذي يضع العِنب الغَض الناضج في السلّة، ويحافظُ على نظارتِه ونكهته وطعمه، بمختلفِ الوسائل والطرائق، التي تضمن ذلك، بعد جُهدٍ كبير من زراعته ورعايته وقطف ثماره
والمشكينو الصادر من منشورات تأويل للنشر والترجمة سنة 2021/ بغداد / شارع المتنبي، من تأليف الكاتب والاعلامي عامر موسى الشيخ) هو سلةٌ ثمرُها زادٌ من المقالات والحكايات والاماكن والازمنة، لأحدثٍ واناسٍ وضعوا بصماتهم على جبين هذا التاريخ الملطّخ بالهموم والمعاناة، وذاك الزمن المسرود بسنّارة بدوي يرى صاحب كتابه أن يظل بدويا -كما قال نزار قباني- في اشارة الى صفة العفة والفطرة والعفوية والبداهة والكرم ،وربّما السذاجة كذلك
والمشكينو الذي ارشف له صاحبُ الكتاب ، هو ذلك المثقف البسيط الساخر من اوضاع الحياة ،لكنه يترجم فلسفة رفضه لها بوسائل مختلفة منها السرد الساخر، والمواقف المسرحية العفوية التي تصل الى درجة السذاجة والطرافة والمفارقة في كثير منها .في جدلية صراع الهامش والمركز ، الانا والاخر
والتنقيبُ او البحثُ والعنايةُ بأدب العامة، لم يكن وليد الساعة ، بل له جذوره التاريخية مع كتاب البخلاء للجاحظ ومقامات الهمذاني والحريري والمدني ..والتي تعتمد الادب الساخر والساحر والمفارق والملفت للنظر والداعي الى الدهشة والسخرية والغرابة …ويتكون من الراوي والحكاية والمروى له والعقدة والحدث فضلا عن عناصر الزمان والمكان . لكن اهم ما يميزه هو المفارقة والغرائبية او العجائبية وتداخل الاجناس الادبية (حكاية، احاديث ، حوارات ، شعر، حكم ،امثال..)، فضلا عن اسلوب السخرية المُبطّن، والذي يحمل رسائلا سيميائية حِجاجية، اغلبها تحتج على الملوك والحكام او رجال الدين وقد تكون حتى على العلماء والشعراء، في ثنائية صراع الهامش والمركز
وعلى ما يبدو ان الاستاذ الكاتب والاعلامي عامر موسى الشيخ ، استهوته هذه الافكار الممتعة والشيقة؛ كونه يرى فيها ألفة ومتعة وقيمة جمالية واجتماعية، تكشف النقاب عن شريحة اجتماعية سماوي فطرية عفوية مهمة ومهمشة، لم ينقب عنها بعد وتستحق اليوم ان تكون مركزا في ذاكرة وادب وثقافة العراقيين
وكما عرفنا الكاتب والاعلامي عامر الشيخ، كان كثيرا ما تستهويه قصص المُهمشين والمُبعدين والمجانين؛ لأنه يرى إن الحكمةَ تخرجُ من افواه المجانين، لصراحتهم الوقحة في كثير من الاحيان . فهو يبحث عن الصدق المجنون في خلايا عقول الفطريين من ابناء مدينته الغراء المعطاء . فضلا عن كونه مهتم كثيرا بتراث مدينته السماوة ، ان لم يكن مهوسا- بل هو كذلك- بحبِّها الذي شغفه وجعله يقدّس كلَّ حبَّة رمل فيها. فهو يستمتعُ في تذوق تراثها وتأريخ ابنائها ويستمتعُ حينما كان يسردُ المواقفَ المضحكة او المؤلمة او النادرة او الطريفة عن ابناء مدينته، التي احبّها كثيرا. ودائما ما يُعيد ويكرر هذه الحكايات في كل مكان وزمان على علم وقصد ودراية منه، بانه يؤرشف لمدينته شفاها، ثم تولدت لديه الفكرة أن يخوض غمار تدوين وارشفة ادب “المشكينو” وقد اجاد وافلح وخير ما فعل حقا . مِن سمات الباحث جدّةٌ الموضوع، وحلُّ المشكلة ،فضلا عن آليات البحث واسلوب الباحث واختيار لغته الخاصة به، وطرائق توظيفه للأحداث والمعلومات والمصادر والمراجع العلمية او الثقافية او الاجتماعية وغير ذلك
ان اللغة البسيطة المنسابة انسياب الماء في مجرى النهر ، والاسلوب الشفيف الرقيق العفوي الخالي من التكلف والمحسنات اللفظية او البديعية التي تجعل من الكاتب متعاليا او غامضا ، وعملية سرد الاحداث بأسلوب مشوق، ومفارق وبديع وقصير، وتقسيم الكتاب الى مجموعة الواح، جعلت منه كتابا ادبيا مميزا يشار اليه بالبنان، كونه ادب المبعدين والمهمشين والفقراء والمساكين من المثقفين والكاتب يستمد انطباعه وانشراحه هذا على طبقات المهمشين والكادحين، من ثقافته وفكره العقائدي الثوري التحرري . كوننا اعتدنا دائما وابدا ان يتم تناول الاسماء اللامعة في ادبنا الحالي، بوصفها مراكزا لطبقة المهمشين
وبفضل الارث الكبير الذي تركه الاجداد للكاتب، من مكتبةٍ عامرة فاخرة زاخرة بالكتب والوثائق الفريدة والنفيسة والغنية، ومِن حَسبٍ ونَسبٍ وجاهٍ وعلمٍ واسرةٍ عريقةٍ دينية علمية اجتماعية ،نجح الباحثُ عامر موسى الشيخ في البحث والتنقيب والكشف والاظهار واخراج هذا النوع من الادب الى الوجود وارشفته، وتقديمه على طبق من ذهب الى المتلقي العراقي
نحن منذ البدء كنا نؤمن بقدرات الكاتب المبكرة، لما يمتلكه من اطلاعٍ كبيرٍ وحسٍ مرهفٍ واسلوب سردي شيق، ومخيلة متقدة وفراسة حاذقة، ودقة التصويب.. جميعها عواملٌ ساعدت في اظهار الشيخ الى مسرح الادب العراقي المعاصر، بشكلٍ سريع وخطى واثقة
الشيخ قدَّم لنا نصوصا طازجة شهية شذية ندية ، نظن لم يطأها أحدٌ من قبله في المدينة وعنها ،و بهكذا كم و نوع و اسلوب جنسي مختلط .فهو يسعى الى ارشفة الانسان والانسانية بواقعية اجتماعية اشتراكية بسيطة ، كي لا تذوب في زحمة الحياة المتشعبة والمُغيبة للضعفاء
المشكينو، مثّل وثيقةً تدوينية تاريخية أبستمولوجية سوسيلو جية سيكولوجية، لطبقة من المقصيّن في محافظة المثنى/ السماوة، وبأسلوب سردي حواري وصفي فكاهي مفارق او غريب على لسان الراوي يستحق الثناء والتقدير؛ كونه اخرجنا من ركام وزحام الحياة المقرفة والمزعجة، واخذنا معه في سياحةٍ سماويةٍ مخياليةٍ، فكريةٍ تاريخيةٍ معرفية اجتماعية