نبيل سليمان لضفة ثالثة
بعد إخلاص للقصة القصيرة طوال عقدين، تنكبت فيهما الكاتبة المغربية ربيعة ريحان سبيل الهجرة إلى الرواية، مضت أخيرًا في هذا السبيل ابتداءً برواية (طريق الغرام – 2013). وبأناة بلغت قرابة العقد جاءت رواية (بيتنا الكبير – 2022)، حيث جدلت الكاتبة سيرة الذات مع سيرة الأسرة والسيرة المغربية. وفي سيرة الذات جدلت ربيعة ريحان ما هو سيرة الرواية بما هو سيرة ظلها الروائي: فريدة التي حصلت في نهاية سبعينات القرن الماضي على الإجازة الجامعية في الآداب، وحاولت أن تتابع دراسة السينما في القاهرة، لكن وفاة الوالد اضطرتها إلى العمل، بينما أخذت تخاتل كتابة سيناريو عن جدها كبّور، بطل الرواية
من سيرة الذات
بعد قراءة سيناريوهات، والفرجة على أفلام، بلبل فريدة ما تجمع لها من الحكايات والأحداث والنوادر. ولما أخفقت في كتابة السيناريو فكرت بكتابة أخرى لما جمعت، فأقبلت على قراءة الروايات. وتتدفق رواية (بيتنا الكبير) في منتهاها بما هو سحر أن تكتب عما تقرأ، وصولًا إلى وعي الرواية لذاتها حين تقرر فريدة أن تخوض التجربة وتكتب رواية وهي تهجس: “أصداء بطيئة لبداية مثيرة”، كما تهجس: “تيهٌ عليّ أن أخوض فيه، وأرجو ألاّ يكون تيهًا في حلم، بل مفازة حقيقية أجد فيها بدايتي”. وفي الخطة التي ترسمها الشابة الأربعينية لكتابة روايتها، تؤكد: “يجب ألا أحلم فقط، لكن عليّ أن أكون عملية هادئة بمفردي في غرفتي، أتذكر وأكتب وأنسق ما كتبت مجسدةً على الورق حضور أو غياب الأهل، في تلك الحياة المستقرة والمضطربة”. وتجهر بموجّهات الكتابة، من تجاهل عبء لعبة اختزال الوقائع والتحوير، إلى تحديد ما يعنيه احترامها لذاتها، وما تعنيه أصالتها من ألا تطمس ذاكرتها
“في رواية “بيتنا الكبير” جدلت الكاتبة سيرة الذات مع سيرة الأسرة والسيرة المغربية. وفي سيرة الذات جدلت ربيعة ريحان ما هو سيرة الرواية بما هو سيرة ظلها الروائي”
إلى سيرة الرواية من جديلة سيرة الذات، تأتي سيرة فريدة منذ الطفولة: مدللّة الجدّ كبّور والأب والأم عقيدة والجدة سلطانة. وتبرق من الطفولة صور رحيلها من حضن الأم والجد والهضبة إلى بيت الأب وزوجته الثانية وأولادها من مدينة آسفي التي لا تغيب عن روايات وقصص ربيعة ريحان. وبفعل الجْدل والتجديل تتواشج سيرة فريدة بسيرة الجد كبّور وسيرة البلاد. والحق أن سيرة الجد كبّور هي الفعل أو الفاعل الروائي الأكبر، وتلك السيرة هي ما تميل برواية (بيتنا الكبير) إلى أن تكون سيرة الأسرة وسيرة الأجيال تارة، وتأرخة روائية تارة، عدا عن السير الذاتي لفريدة/ ظل الكاتبة
سيرة الجدّ
تقول فريدة إن ماضيها وماضي والدها وأعمامها وعماتها وخالاتها مختزل في جدها. إنه “تاريخ متداول محوره الجد كبّور” والأمر إذًا هو أن سيرة الأسرة والأجيال مجدولة في ومع سيرة الجد، مثلها مثل السيرة المغربية أو سيرة البلاد أو التأرخة الروائية
بلغت أسرة ذلك الإقطاعي الجامح المفتون بالخيل وصيد الغزلان والنساء، ستة وأربعين من الذكور وأربعًا من الإناث. وتبدأ حكاية الجد بصدامه مع الجابي نجدةً لقروي فقير، فيكون على الشاب المنجد الذي كانت والدته تنصحه بأكل قلب الهدهد نيئًا طلبًا للشجاعة والدهاء، وليس قلب الدجاج الذي يرمي آكله بالخوف؛ أن يضرب في الفلوات فرارًا مما ينتظره من عقاب التحالف المتسلط من الشيوخ والجباة والسعاة وآلة المخزن (السلطة). وفي هذا السياق تأتي الرواية على سيرة أجداد كبّور الذين جاءوا فاتحين في اليمن، وعلى تحوّل حب كبّور من أمه إلى أبيه. كما تأتي الرواية على سيرة مبارك الذي يرعي قطعان الأسرة، ويحدث الطفل كبّور عن مجاعات الثلاثينيات من القرن الماضي في المغرب. وتعجّل الإشارة هنا إلى أن لكلٍ من جمهرة شخصيات الرواية حكايتها، ولذلك، أو بذلك، تتناسل الحكايات، لكن الحكاية الكبرى، الحكاية الإطارية، هي حكاية الجد كبّور الذي يحكي لحفيدته ومدللته فريدة حكاية فراره إلى نهر/ وادي تانسفيت حيث أنشأ مزرعته وشيدّ مملكته في هضبة فاتنة، واقتفى والده وإخوته أثره إلى أن عثروا عليه، وأعانوه على البداية
“لئن كان النصف الثاني من رواية (بيتنا الكبير) يمور بقصص أعمام فريدة وخروجهم من أسْر مملكة الجد إلى المدارس ودنيا المدن، فأسطرة الجد تظل تتوالى وتتعزز من خبر إلى خبر ومن حكاية إلى حكاية”
من النهر الذي سحره إلى الزوجة التي جاء له بها أبوه (سلطانة) إلى تدريبه لسلطانة على البندقية والسيف، إلى زيجاته الثلاث التالية خلال شهور، إلى استصلاح الأرض واستقدام من يساعده في الفلاحة والرعي، إلى بيع الغلال وامتلاء البيت بالأبناء الذين يروي لهم ذكرياته عن موطنه الأول وعن ظلم المخزن (السلطة)… من كل ذلك تنتسج سيرة الجد كبّور، لكنها لا تكتمل إلا بانخراط هذا الأمي الذي يكره الاستعمار الفرنسي، بخلية مقاومة. وهنا ترمي التأرخة الروائية بشياتها من المظاهرات والروايات والفدائيين والاغتيالات والمتطوعات المحجبات اللاتي يهرّبن السلاح وينقلن الأخبار ويوزعن الجرائد الممنوعة
تخبر فريدة أنها ورثت من جدها الحيرة والخوف في الطفولة، ونقرأ: “هو من حدّد مصيري، وأكسب حياتي بعدًا آخر”، بينما ورث الأحفاد الآخرون الغيظ والعراك الضاري مع أي شيء ولأي شيء ولأي سبب. وتخبر فريدة بما ينير بناء شخصيتها وشخصية الجدّ، كما ينير بناء الرواية، أنها تستحضر تاريخ جدها بألفة وحنين لأنها الأقدر على الحديث عن عالمه. وترى نفسها أنها الحفيدة الأكثر وقوعًا في غرام سيرة الجد الذي ارتبطت به ارتباطًا أبديًا، ونقرأ: “كان كبّور مثل الكثيرين من أفراد أسرته، أعمام وأخوال وأصهار، يعيدون إلى الذاكرة عشرات المشاكل والورطات ومئات التضحيات، وحكايات كثيرة كانوا فيها أصحاب البطولة في احتكاكهم بالجيران والأغراب، في تلك الأزمنة النائية”
إذا كان الجد كبّور قد أُرغم على العيش بعيدًا عن أهله وعن القرية التي نشأ فيها (الجذور)، ففريدة أيضًا أُرغمتْ على العيش بعيدًا عن أمها، وبعيدًا عما سيصير قريتها، وهو المنفى الذي اختاره الجد بعد ما اعتدى على الجابي. فعلى الهضبة التي صارت مستوطنة الجد كبّور، وأمام النهر الذي رسم حدًا لمملكة الجد، نشأت فريدة إلى أن انتزعها جدها ومضى بها إلى بيت أبيها في أسفي، من أجل أن يوفّر لها نشأة مدنية أيسر، ومن أجل أن تتعلم أيضًا. وقد التأم جرح الطفولة هذا سريعًا بفضل رعاية الأب لفريدة، وبفضل زوجة أبيها وأخوتها منه، على النقيض مما هو شائع من غلظة وجفاء الزوجة الثانية (الضرة) مع أبناء الزوجة الأولى. وربما كان لكل ذلك أثره في شخصية فريدة الشابة التي عزفت عن الزواج، وكتبت: “كنت أقاوم ظروفًا قاسية بالمعنى المادي على كل حال، لكنها تلك الضغوطات النفسية التي لا تقل صعوبة هي الأخرى”
بانتزاع فريدة في سنتها الخامسة من حضن أمها ومن مملكة الجد باتت مشتتة بين ولائين ومحبتين: الماضي والحاضر. وفي الزمنين كانت غطرسة الجد تنزاح لها، لتحل محلها الرقة. ولئن كان النصف الثاني من رواية (بيتنا الكبير) يمور بقصص أعمامها وخروجهم من أسْر مملكة الجد إلى المدارس ودنيا المدن، فأسطرة الجد تظل تتوالى وتتعزز من خبر إلى خبر ومن حكاية إلى حكاية: الرجل والبندقية صنوان، يعاقب ابنًا على تجاوزاته بتسديد البندقية عليه، هو من يختار لزوجاته ملابسهن، ترسانة من الحيل الذكية هو، يغار على نسائه غيرة عمياء… حتى في موته تحضر الأسطرة، وبموته بشبهة التسميم فجأة، بموت (الجد الاستقلالي)، تنطوي صفحة من تاريخ المغرب، وليس فقط من تاريخ أسرة كبّور التي جاء منها، ولا تاريخ أسرته التي كوّنها وبدأت تتشظى، وإن يكن كبّور قد ترك عددًا من أبنائه في مملكته، بينما مضى الآخرون إلى المدارس والمدن حتى صاروا طابورًا من أساتذة العربية والفرنسية، وبسببهم كرهت فريدة التعليم
“إنه الحنين إلى ذلك البري، الفطريّ، المتمرد، الفحل، العصامي، الانفعالي، الغضوب، المجنون، المتهور، النبيل، العاقل، والذي تؤكد شخصيته الروائية مقدرة ربيعة ريحان على بناء الشخصية”
زارت فريدة الهضبة/ المملكة بعد انقطاع طويل، ففوجئت بتجزئة البيت الكبير، وبتحول نهر تانسيفت إلى خيط من ماء بعد عشر سنوات من الجفاف، وهو الذي كان فيضانه مرعبًا وقاتلًا. وفي تلك المملكة/ القرية التي من نسل واحد، تكاثرت البيوت الجديدة، وانطوت صفحة الجدّ كما انطوت بعدها صفحة الأب، ولم يبق لفريدة إلا الحنين الذي يفني “بل يستنفد الصلابة الداخلية مثل إحساس المرء بأنه عابر”
إنه الحنين إلى ذلك البري، الفطريّ، المتمرد، الفحل، العصامي، الانفعالي، الغضوب، المجنون، المتهور، النبيل، العاقل، والذي تؤكد شخصيته الروائية مقدرة ربيعة ريحان على بناء الشخصية. وتحضرني هنا شخصية أم هاني في رواية ريحان (الخالة أم هاني – 2020)، والتي دعوتها بعد قراءتي لرواية (بيتنا الكبير) بالجدّة كبّورة، تيمنًا بالجد كبّور، وسواء صح تأنيث كبّور أم لم يصح
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل