حين قرأتُ كتاب «حياتي» لتوفيق الحكيم، قلتُ لنفسي: كان بوسع الحكيم أن يؤلف كتاباً على غرار كتاب الجاحظ «البخلاء»، ليس فقط لأنه عُرف عن الحكيم بخله، وإنما للحكايات الطريفة التي حكاها عن بخله وبخل والده أيضاً، الذي يقول إنه ورث منه البخل. كان الوالد الذي عمل قاضياً «مُدققاً في المال والكلام. يخرج من جيبه القرش والكلمة بحرصٍ وفحص»، على خلاف والدته «السخيّة دائماً بطبعها تخرج النقود والكلمات بيسر جارف، وكرم صاخب»، ولكن توفيق الحكيم لم يرث ذلك منها، حتى أنه ردّ تفضيله لكتابة المسرحية بالذات، لا الرواية، إلى كونها «فنّاً اقتصادياً بخيلاً، الكلمات فيها محسوبة بدقة والوقت فيها محدد والحيز فيها محدود، لا محلّ فيها للإسراف والانفلات».
قبل أن نأتي على «طرائف» الحكيم عن البخل، سنورد واحدة من حكايات الجاحظ في «البخلاء» عن «توريث البخل». قال: «كنتُ عند شيخ من أهل مرو، وصبي له صغير يلعب بين يديه، فقلتُ للطفل: إما عابثاً وإما مُمتحناً: أطعمني من خبزكم. قال: لا تريده، هو مرّ. فقلت: فاسقني من مائكم. قال: لا تريده، هو مالح. قلت: هات لي من كذا وكذا، قال: لا تريده هو كذا وكذا، إلى أن أعددت أصنافاً كثيرة، وكل ذلك يبغضه إليّ». هنا ضحك والد الطفل قبل أن يعلق بما مفاده أن الطفل ورث ذلك منه، ف«البخل طبع فيهم وفي طينتهم».
أما الحكيم فيقول إن أباه شاهده مرة وهو يهمّ بالدخول إلى مقهى «الترنايون» في الإسكندرية، فاستوقفه وقال له: «انت عبيط تدخل هذا المحل.. فنجان القهوة فيه بثلاثة قروش صاغ!»، فيما اعتاد الوالد الجلوس في مقهى مجاور اسمه «مقهى البن» سعر الفنجان فيها قرش ونصف.
حين أزفت لحظة رحيل والد الحكيم، قصده في المستشفى حيث كان يحتضر، ففكر في أن يحضر أخصائياً علّه ينقذ والده، لكن إدارة المستشفى طلبت منه دفع خمسة جنيهات لقاء ذلك، فثار الابن على الإدارة التي رأى في طلبها ابتزازاً واستغلالاً للموقف. أصرّت المستشفى على موقفها، صرف النظر عن استدعاء الأخصائي. توفي الأب، ليصبح الابن نادماً على ما فعل. «ماذا يساوي مال الدنيا كلها أمام رجل يحتضر؟». طرح الحكيم السؤال فيما بعد، في الوقت الضائع.
في تشييع جثمان والده إلى مثواه الأخير استعاد توفيق الحكيم آخر مرة كان فيها بالمقبرة نفسها عند وفاة جدته. حين انتهى شغيلة المقبرة من مواراة الجدة في القبر، تحلقوا حول والده يطلبون أجورهم، فأخرج قروشاً قليلة «جعل ينفحها عليهم» وسط تعالي أصواتهم مطالبين بالمزيد، وهو يرد عليهم: «المرة الجاية.. المرة الجاية!»..
«المرة الجاية» كانت يوم دفن الوالد!