محمد لحسن الحراق1
خاص غرفة ١٩
في البداية أحب أن أخبركم أني أتناول هذه الرواية بصفتي قارئا ، والقارئ هنا بمفهوم “ستانلي فيتش”2 الذي يعتبر أن “القارئ هو صانع النصوص”، لكن ليس ذلك القارئ المتحرر من كل إطار معرفي ومنهجي وإنما القارئ المنضوي ضمن جماعة تأويلية . لأن التأويل هو البحث عن المعنى، عن الحقيقة التي تغلفها الرواية بعدة ألبسة مزخرفة جميلة من اللغة والأساليب والتقنيات السردية.
إذن على القارئ أن يخلع تلك الحجب ليشاهد نصا داخل النص، ومعنى داخل المعنى. وإن كانت اللغة هي اللغة والرواية هي ذات الرواية والشخوص هم ذات الشخوص. النص العبقري والجيد هو القابل لعدة قراءات وإن اختلفت كثيرا وتباعدت الرؤى. بل هذا الاختلاف يزيده غنى وثراء. لأن النص عبارة عن ثوب ولباس حسب تعبير “رولان بارت”3 نص يبني نفسه ويخدمها من خلال تشابك لا يتوقف كما تفعل العنكبوت التي تذيب نفسها في الإفرازات في بناء شبكتها. هذا التشبيك لا يحول دون استكشاف كنه النص الباطن المكنون داخله، ولا يحولدون الوصول إلى استكشاف الشفرة السرية كما يقول رومان جاكبسون. صاحب المدرسة التواصلية أو الوسائطية حسب تعبير الدكتور حيدر غضبان4.
بهذه الأدوات المنهجية يمكن قراءة هذا النص، فهو في الظاهر دراما اجتماعية عادية نعرفها جميعا. بل قد تكون مشتركة في عدة مجتمعات أخرى. لكن بفضل هذه الأدوات أدت إلى الكشف والتعرية لهذه الألبسة والثياب للوصول إلى معاني مدهشة حد الصدمة. لذا سميت هذه القراءة تأويل الدهشة ودهشة التأويل في رواية رجل المرايا المهشمة للبنى ياسين.
التأويل هنا ليس في الاقتصار فقط على جماعة لسانية أو أسلوبية ولغوية معينة، بل التوسع في استعمال علومأخرى لفهم النص كعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السلوكي، والعلوم الاجتماعية والسياسية. لأن هناك عدة أبعاد لا بد من النظر إليها ببعد نظر أيضا…
كما استعملت مصطلح الدهشة بدل الصدمة، لكني كنت بين المنزلتين ما فوق الدهشة وأقل من الصدمة. الصدمة ربما يصنعها الفيلم السينمائي حتى تضع يدك على فمك حتى لا تصرخ، وتكتم أنفاسك بفرط المشاهد الصادمة المفجعة. لكني آثرت أن أكون أرسطيا في دهشتي كما عبر عنها في كتاب الميتافيزيقا إذ يقول “الفلسفة تبدأ بالدهشة” لذا فالتأويل عندي يبدأ بالدهشة أولا.
فكانت لهذه الرواية ولهذا النص المكتوب دهشة تصعد إلى الخيال فتقتحم العقل بعدة أسئلة تأويلية فلسفية، تغوص في النفوس البشرية وسيكولوجيتها وتقوم بقراءة متأنية لسوسيولوجيا هذا المجتمع المقهور الذي يغرق في التناقضات.
- تأويل تيمة المرايا
المرايا تيمة فلسفية وأيقونة أسطورية منذ الإغريق واليونان والرومان وغدت في الثقافة الأوربية خاصة الغربية مشهورة ومتداولة مثل رواية the broken mirror الشهيرة للانجليزي جوناتان كوو، كما نجد الروايات الهولندية تقرن طواحين الهواء مع المرايا بكل أنواعها. وهذا النوع من الرموز الإيحائية حاضرة بقوة في هذا الأدب الغربي الغرائبي. كما انتقلت إلى المسرح والسينما كالفيلم الإيطالي الفرنسي le miroir de deux faces. ومسلسلات الرعب والرسوم المتحركة واللوحات الفنية. كما أننا نجدها حاضرة أيضا في الثقافة العربية شعرا ونثرا ونقدا، كما فعل نجيب محفوظ في روايته “مرايا”. وربما آخرها أعمال الكاتب والناقد المصري عبد العزيز حمودة رحمه الله في كتابه الأول “المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك” ثم كتابه النقدي التالي ” المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية” إلى كتابة الأخير ” الخروج من التيه”…
وهذا لا يضير الرواية في شيء بالعكس، فلكل رواية تيهها ودهشتها وصدمتها أيضا للقارئ أو المشاهد إذا طورت إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني أو قصص مصورة، وكل هذا تستحقه هذه الرواية المدهشة التي بين أيدينا اليوم.
لأن تيمة المرايا تشكل محور الرؤية الفلسفية لهذا المجتمع الظالم الذي يسحق الضعفاء، بل تقنعهم المرايا أنهم مشوهون لا يستحقون العيش داخلها.
- دهشة التأويل في التأثير والتأثر بالآداب العالمية والعربية
التشويه أو القبح أو العيب في الجسد هو دهشة كبرى استخدمها الكثير من الأدباء للدلالة على الشعوب المقهورة المقموعة في أبعادها السيكولوجية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية.
أجد في الرواية بكل وضوح فيكتور هوغو باستحضار الرواية لشخصية أحدب نوتردام الذي له عيب في ظهره مقابلا لشخصية صطوف الذي عيبه في وجهه، وكلاهما من الهامش السحيق للمجتمع الظالم الذي لا يرحم.
استحضار فيكتور الثائر على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي ببلده حتى هاجر إلى منفاه إلى بروكسيل كملاذ للكتابة بحرية دون متابعة أمنية، نفس الأمر بالنسبة للكاتبة اختارت أمستردام بهولندا كملاذ للكتابة والإبداع وورشة للوحاتها المكتوبة بالقلم أو الفرشاة والألوان.
كما أدهشني حضور عبد الرحمن منيف، في تشابه وطباق جميل بين مدن الملح عنده، ومدن الأحزان عند لبنى ياسين، وهي دلالة عميقة لا تخطئها عيون التأويل. بل في روايته شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف أيضا نجد شخصية رجب الذي عاش الوحدة المقيتة في زنزانة انفرادية في السجن، فكذلك صطوف عاش في ركن بالبيت معزولا عن الأسرة في وحدة مقيتة أيضا، فالأسرة سجن، والمجتمع سجن، حتى الورشة سجن، لأنه في كل مكان يكون متواريا عن الأنظار ولا يرغب أحد في مخالطته.
في الرواية دهشة الأضداد التي هي لعبة الجاحظ المفضلة، لعبتها بمهارة لبنى ياسين في هذه الرواية، فإذا كان الجاحظ جعل من العاهة الاجتماعية أو الصفة الذميمة التي لا يحتملها العرب الذين يوصفون بالكرم والإيثار وإيواء الأغراب والضيوف يصفهم ب ” البخلاء” لكنه يمنحهم ميزة مضادة هي إتقانهم للفكر والكتابة وعذب الكلام، نفس المتاهة التأويلية ولعبة الحبكة السردية فصطوف المصاب بعاهة جسدية لتصبح عاهة اجتماعية كانعكاس مخلفة جرحا عميقا في النفس والشعور والوجدان والسلوك، لكنه يتقن فن الخشب ويصنع المكتبات وأثاث البيت بمنتهى المهارة والتفنن، بل يحب الشعر ويستدل به عندما يعجز لسانه. ويعيش بين دفتي الروايات العالمية ويستلهم من دروسها وأبطالها.
- دهشة تشخيص رجل البيت الضعيف السلطة
هنا إشارة إلى السلطة في بعض البلدان المتخلفة التي يحمها أشخاص لا ترغب فيهم مجتمعاتهم وشعوبهم. فبضعفهم يعتدي الأغراب على شعوبهم ، وكما ضعف الإدارة والتسيير تخلف مواطنين مشوهين ، هدفهم هو أرضاء الكبار فقط. رغم وجود هذه الفجوة المتباعدة وتفكك الأسرة ينعكس على تفكك المجتمع. ويسود الظلم والتحقير والتهميش والتمييز بين فئات المجتمع. هذه السلطة يتحكم فيها رجال الأعمال أصحاب المعامل والشركات والعقارات يمثلها أبو نعيم ، أي عنده نعمة ترمز للغناء والثراء…
1.طبقة ناجية يمثلها ناجي أرستقراطية متعلمة، لكنها انتهازية ومصلحية. متحالفة مع السلطة وتمارس كذلك الظلم وتحقير وقمع الضعفاء
2.طبقة سالمة يمثلها سالم ، هي طبقة وسطى لم تنجو ولكن سلمت نوعا ما من القمع والقهر والتهميش
3.طبقة ضعيفة جدا ، محتقرة مهمشة لا إرادة لها . هدفها إرضاء الكبار ما فوقها بكل مراتبهم
- دهشة التأويل في قراءة مُواطن الظل
تمحورت الرواية حول شخصية تعيسة الحظ، لكن ليس لذاتها. بل كانت ضحية الأم، ضحية الأب البليد، ضحية المجتمع، ضحية السلطة التي يمثلها هنا الأب، ضحية القمع، ضحية الأسرة، ضحية المرأة، ضحية المرآة التي هشمها ولم يعد يرى وجهه فيها مرة أخرى، لنكتشف في آخر الأحداث دهشة النظر في المرآة الحقيقية.
لتتطور الأحداث والمسارات لأقف على عتبات ومفترقات ومقاصد:
مقصد المؤلف ، مقصد النص، ومقصد القارئ. ولا يحق لي الآن إلا ما يخصني وهي المعاني غير المرئية في الرواية عند قراءتها للمرة الأولى.
لأخلص إلى أن شخصية صطوف المقموع في هذا الوسط العائلي من أمه والمهمش جدا من إخوته، ونفس الشيء في الورشة دائما متواري عن الأنظار، يرمز إلى المواطن المقهور المقموع المحبط، مواطن الهوامش، مواطن “صبي معلم”. المواطن الكادح الذي يشتغل كثيرا إلى درجة الانهاك، لكنه لا يرح شيئا سوى الاقصاء والتهميش والتجويع والعري والوحدة القاتلة.
- تأويل دهشة الصمت عند المواطن المقموع
صطوف لا يعلم ما جرى ليصل إلى هذه الدنيا القاسية، لا يعرف سبب قسوة أمه عليه، لا يعرف سبب هذا الكيل له بالشتائم صباح مساء، هذا الوصم والسب بأن وجهه فيه عيب قبيح ولن يستطيع أحد النظر في وجهه، إلى درجة اقتناعه قناعة لا تتزحزح بهذا القبح الشنيع وهذا العيب الذي ولد به. فلم يعد يطيق رؤية وجهه، بل يصيبه الرعب والخوف أن يرى الحقيقة.
ـ فهو يعمل دون أجر ، الأجرة يأخذها أبوه
ـ العمل متواريا عن الأنظار
ـ العمل بثياب بالية ، لأن الجديد لا يليق به ولا يصلح له
ـ أجرته تذهب لغيره، لإخوته لكي يكملوا دراساتهم الجامعية التي حرموه هو منها
كل هذا وهو لا يحق له الكلام، مما يرمز على المواطن الصالح الذي تريد أن تشكله وتصنعه الأنظمة الاستبدادية غير الشرعية، حتى لا يطالب بحقه في الكرامة ولا يطالب بحقوقه المادية. بل هو من يتودد إليهم ويبحث عن أي طريقة لإرضائهم بكل الغالي والنفيس لديه. كل ما يريده رضاهم ولو ضمنيا لكنه لن يحظى بذلك أبدا.
يظهر صطوف وسط تلاطم الأحداث وتصاعدها كائنا صامتا لا يعترض، هم يقررون له ، “لأنه رجل لا مستقبل له” كما جاء في الصفحة 75 .
إشارة ذكية إلى الشعوب المهضومة حقوقها، الصامتة التي لا أمر لها ولا نهي. هناك من يتخذ القرار عوضا عنها في ترسيم مستقبلها، لكن أي مستقبل إذا لم تشارك في ترسيمه والتخطيط له.
لذا خرج صطوف من التعليم إلى الشقاء ، إلى ورشة أبيه البيولوجي الذي لا يعلم أحد أنه أبوه، لأن أمه ماتت وذهب السر معها إلى الأبد.
صاحب الورشة “أبو النعيم” يرمز إلى الطبقة الثرية السائدة في المجتمع المتحالفة مع السلطة، لذلك فتتاح لها جميع الفرص في الاغتصاب وسرقة حقوق العمال دون حسيب ولا رقيب ولا حتى عتاب الأحباب كما يقال.
خرج صطوف من العلم دون إرادته، ليشتغل مع أبي النعيم دون إرادته، وليذهب أجره لغيره دون إرادته. وكأنه يقرأ عكسيا بيت أبي الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وهذا من عبقرية هذا النص أن تجد الشيء وضده، وفي الضد يظهر المعنى. بل تضاد كما جاء في القصيدة اليتيمة:
ضدان لما استجمعا حَسُنَا والضد يُظهر حسنه الضد
ليكون عكس المراد:
ضدان لما استجمعا قَبــُــحَا والضد يُظهر قُبحه الضد
أي بمفهوم المخالفة كما يقول به الأصوليون خاصة الإمام الشافعي رحمه الله.
“لم يعترض صطوف مرة واحدة، ولا أظهر امتعاضا . فما زال يلاحقه ذلك الشعور البائس بأنه لا يستحق الفضاء الذي يشغله، ولا الهواء الذي يدخل رئتيه، وحتى تلك اللحظة كان يعمل جاهدا لأن يحبه أبوه وأخوه ، مستعد هو للعمل كثور في ساقية لكي يشعر بأنه يقدم شيئا ما يجعله جديرا بتقديرهم ومحبتهم” (ص 77).
- دهشة نكران الجميل والاحتقار المقيت
هنا أستعمل أداة من أدوات “هايدغر” نوعا ما فيما سماه التفسير الدائري للنص، أي أن الفهم الحقيقي يكون مؤسسا على فهم سابق. بمعنى ما سردته الراوية العليمة من أحداث في مجتمع الرواية أفهمه على أمثلة سابقة في معيشنا اليومي، بل أجد فيها التطابق التام. كأني عشت مرارة هذا الحدث المؤلم مرتين الأولى في الواقع والتجربة والآخر في الرواية.
إنها نفس قصص المواطن الصالح المواطن الضعيف المواطن المهمش، المحتقر الذي لا يؤبه له. صطوف العامل الكادح المتواري داخل منطقة معزولة بالورشة، يكدح طول اليوم بلا ملل ولا كلل ليجمع المال لمنحه أبوه لأخيه، الذي أصبح طبيبا، كما كان يسهر لإعداد كل تجهيز عيادة وبيت أخيه وأثاثه ليكون جاهزا يوم الزفاف كاملا متقنا جميلا يسر الناظرين. اشترى صطوف أجمل الثياب لحضور هذا العرس الكبير لأخيه الأرستقراطي الذي أصبح من علية القوم لأن أصبح طبيبا له عيادة على الشارع الرئيسي وسيتزوج طبيبة مثله من عائلة غنية. الدهشة في خيبة صطوف أنه لم يكن مدعوا لحفل الزفاف، بل كانت رغبة الجميع أن يتوارى عن الأنظار ولا يظهر أمام الضيوف الكبار. فتعلل الأب بأن أبا نعيم سيحضر الحفل ولا ينبغي أن تبقى الورشة دون حارس.
حز هذا في نفس صطوف فعوض تلقي الشكر على ما صنعه لأخيه من لوازم لتأثيث بيته والعيادة بالإضافة إلى الأموال التي ضخها في ميزانيته لكي يصل إلى ما وصل إليه، فإذا به ينكر الجميل والمعروف ويقابله باللامبالاة والاحتقار والنكران والمعاملة بالجحود التام. لكن الدهشة الكبرى هو أن صطوف لم يكن مقتنعا بالدور المناط به فقط بل وجد المبررات لهذا التحقير والتهميش بسبب الورشة تارة وبسبب العيب و التشوه الذي يحمله وجهه. هذا الغوص العميق في نفسية الشعوب المحتقرة المقهورة التي يعبر عنها صطوف في الرواية إلى درجة التماهي التام مع أحكام السلطة التي يجسدها الأب . وهذا ما تحدث عنه بالضبط مصطفى حجازي في كتابه ” التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، فقد سلط الضوء على هذه الصفة الذميمة في شخصية الانسان المقهور سماها بالحرف “التماهي بأحكام التسلط”5 والتي هي ناتجة مباشرة عن ما سماه بالتحقير المعنوي والجسدي5، في كتاب آخر سماه “الانسان المهدور، دراسة تحليلة واجتماعية”6 . فالكاتبة كانت بارعة إلى حد بعيد في إظهار هذه السيكولوجية المريضة إلى حد الاضطراب للإنسان المهدور طاقته والمقهور في ذاته على حد سواء. فقد كان النص يرمز إلى ظاهرة ما يسمى متلازمة ستوكهولم7 التي يمكن تحديدها في العناصر التالية:
ـ المشاعر الإيجابية تجاه المعتدي المتسلط
ـ دعم وتأييد سلوك وتفكير المعتدي
ـ المشاعر الإيجابية للمعتدي تجاه الضحية
ـ سلوكياتٌ مساندةٌ للمعتدي من قبل الضحية بل مساعدة المعتدي
ـ عدم القدرة على المشاركة في أي سلوك يساعد على تحرير الضحية أو فك ارتباطها
بل نجد مقولة لعبد الرحمن الكواكبي صاحب ” طبائع الاستبداد متطابقة تماما مع الوصف الدقيق للرواية لهذا المجتمع ، إذ يقول: ” العوام هم قُوَّة المستبد وقُوتُه،بهم عليهم يصول ويطول. يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما”8
- دهشة الشعوب المقهورة التي تسوء أخلاقها
في الشعوب المقهورة يكثر الظلم الاجتماعي والغش والنصب والاحتيال واغتصاب كل ضعيف كما فعل أو توفيق مع ابنته، ولو كانت جثة ميتة كما فعل صطوف في مستودع الأموات. وقد أحسن ابن خلدون “عالم العمران البشري” (عالم اجتماع بلغة العصر) في تحليل دقيق لهذه الظاهرة والعاهة الاجتماعية في مقدمته فقال:” الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميشُ إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة”.
دهشة في وصف سيكولوجية المقموع
تظهر في ممارسة القمع والاستبداد على جثث الموتى، فتسلسل التسلط والقمع هرمي من أعلى إلى أدنى، من الأقوى إلى الأضعف إلى آخر السلسلة، أو أخر حجر في الهرم. سواء في النظام السياسي، أو الهرم الإداري كما يسمى السلم الوظيفي ، أو في السلم الاجتماعي ، الأكبر يقمع الأصغر منه إلى أصغر فأصغر إلى آخر صغير وضعيف في السلم. بل الأخير يكون حقده أكبر على من هو أصغر منه في الترتيب، لأنه يكون قد تحمل ثقلا كبيرا من فنون القمع والتسلط المتسلسلة، بل تورث إلى الأبناء والأحفاد.
هذا ما كان يقوم به صطوف عندما يختلي بالموتى في مستودع الأموات فقد كان يقمعهم ويسبهم ويشتمهم ويوسعهم ضربا، إلى درجة أنهم يموتون من شدة الضرب والبطش وهم أموات. وهذا ما يتعرض له الضعفاء هم موتى بالفقر والتهميش لكن يتم البطش بهم وإذلالهم بمناسبة أو غير مناسبة.
- دهشة الملاذ إلى القراءة والدين والفشل فيهما
جاءت هذه الدهشة في الرواية في الصفحة 79 ما يلي: ” وما أن يصل ليلا إلى ركنه حتى يفتح إحدى الروايات”، ومن بين هذه الرويات، رواية “Notre dames de Paris de VICTOR HUGO ” (نوتردام دو باري لفيكتور هوجو)، بحيث وجد بطله الملهم هو أحدب نوتردتم، فتاه مع البطل والرواية فأخذ يبحث بدوره عن أزميرالدا الخاصة به. فالأحدب وإن فقد بعض مزاياه الجسدية الظاهرية، فهو لم يفقد في باطنه وفي روحه الروح الإنسانية العاطفية المحبة للجمال وللخير ونصرة المظلومين.
نفس المشكل وقع مع صطوف ونفس المعاناة التي عاشها الأحدب ، فقد كان بدوره قابعا خلف جدران الكاتدرائية منعزلا عن العالم. لأن المجتمع المهزوم المقهور يرتعب بدوره من العاهة ومن وصمة العار التي يوصم بها ، فيحاول أن يخفيها ويحتقرها، ويحتقر الضعيف ويهمش المحرومين. حتى تأتي امرأة رمز الجمال الإنساني فيحدث التغيير، بتلك الطاقة الإيجابية والقوة الناعمة التي تحفز على التغيير.
لكن الدهشة الكامنة داخل هذا النص، أن الأحداث سارت في الاتجاه المعاكس، فإن صطوف وإن وجد الملاذ في القراءة ليلا، وأحيانا بالذهاب إلى المسجد لكنه انقطع عنه، كما كان الأحدب في الكاتدرائية. لكن لم ينجح صطوف فيما نجح فيه أحدب نوتردام، وذلك لعدة أسباب استجليتها من خلال المفهوم وليس المنطوق طبعا.
صطوف فقد التوازن الروحي، بسبب انقطاعه عن المسجد. ثم إنه رغم إدمانه على القراءة لم ينجح أيضا. لأنه ذهب إلى الثقافة والقراءة كملاذ، كضرورة لملء الفراغ، وليس عاشقا. الضرورة هي التي دفعته، لهذا لم تنفعه فكانت نهاياته مأساوية. أما إن كان ذهب عاشقا لها ستؤثر فيه وسيعشق الحياة ويجد فيها حلولا جوهرية لمآسيه ولرأى فيها وجهه دون خدوش أو عيوب.
هنا إشارة وضفتها الكاتبة ببراعة مدهشة، فالتعليم للتثقيف والدين للتوازن الروحي و التربية على القيم والمبادئ هما الحل لكي نخرج من هذه القوقعة الاجتماعية ومن هذا الانحطاط المادي والأخلاقي. فالعلم ضرورة والمسألة التعليمية ضرورية أيضا ، لكن يجب إصلاح النظرة إليهما بحيث يكون الإقبال على العلم والتعلم والقراءة والثقافة بعشق وحب وليس ديكورا وأثاثا للتظاهر وتزيين دولنا وحكومتنا بوزارات الثقافة والتعليم للتباهي دون أن يكون المضمون المقدم للتعليم صالحا لمواكبة العصر واللحاق بالدول المتقدمة.
- دهشة الخنوع للوصاية وعدم القدرة على اتخاذ القرار:
المقهور هنا يقبل بالوصاية كي لا يتخذ أي قرار، بل يخاف من اتخاذه ويرتعب من ذلك فجسدت هذه الحقيقة المرة في الصفحة 114 ” لم يكن صطوف رجلا مؤهلا لاتخاذ قرار، ولا هو قادر على إبداء رأي واضح ينسبه لنفسه، لذلك كان إن صدف وسئل عن رأيه ـ وهذا قلما يحصل ـ أجاب بآراء الآخرين بل ونسبها إليهم، متوقعا أن رأي الآخرين المنسوب إليهم أكثر وقعا وإقناعا” هذا بالضبط ما أشار إليه الكواكبي من آثار الاستبداد على الشعوب المقهورة المتخلفة فيقول: ” الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان (غسل الأدمغة)، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع،والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح…”9
وهذا الأمر لا يحصل للمواطن المقهور فقط، بل حتى للمثقف المقهور والمتعلم المقهور، والغني المقهور. لأن في المجتمع المقهور تسود منهجية واحدة في التفكير، طبيعة الانهزامية وتحقير الذات. فالمثقف تجده يستحضر اللغات الأجنبية في كلامه لإقناع الآخرين، بل يسوق أسماء عالمية لأنها أكثر رنينا عند السمع في المجتمع، ولا يستطيع الاستدلال بمؤثرين في الثقافات من بني جلدته ومن هويته الثقافية والحضارية كالجاحظ والجرجاني وابن خلدون وابن رشد والكواكبي… يخاف من المجتمع المقهور أن يعده متخلفا. عكس الأسماء اللامعة في الغرب فقد تظهره بأنه وصل إلى التقدم والرقي الثقافي.
بل نجد صطوف أمام زوجته الشكلية التي باحت له باغتصابها من أبيها، أي السلطة التي تغتصب البلاد وخيراتها. لما تشجع معها أخذ يعدها بالنضال والتجرؤ، ووعدها وعودا ثورية أخذت قرابة ثلاث صفحات من الرواية. لكنه عند أول احتكاك مع السلطة نسي كل تلك الوعود وعاد للخنوع من جديد. كما تفعل أحزابنا “الثورية أو الليبرالية على حد سواء” في حملاتها الانتخابية من وعود كبيرة ضخمة واعدة، لكن خيبة العروس / البلاد أنه مجرد الاقتراب من مربع الحكم تنسى الأحزاب كل ما وعدت به العروس.
- دهشة كائن المرأة الضحية
المرأة عادة تكون هي رمز الحياة والجمال والحب، لكن بالنسبة لصطوف هي الشعوب المقهورة الحزينة، الحياة المعذبة، هي القرية الظالم أهلها، هي البلاد التي لم تجد من يدافع عنها من المغتصبين الأجانب من القوى العالمية الاستعمارية المحتلة للبلدان، المغتصبة لحقوق وثروات الشعوب الضعيفة. ولا من ظلم الأقارب أو من يتولى أمرها أن يقوم ـ من المفترض ـ بحمايتها من الأغراب. لكن صدمة الرواية كانت المقولة الشهيرة “حاميها حراميها” هي التي تتحقق وهي السائدة.
- دهشة التغيير والهجرة
لما وجد له أخوه “سالم” وظيفة قارة عوض صناعة الخشب في الورشة، كان التردد والخوف من التغيير، والتوجس من المستقبل. لذلك فإن الشعوب المقهورة وإن قدمت لها الحلول والمشاريع لكي تنهض وتتقدم فهي تخاف من التغيير ومن أي مشروع جديد للنهضة والتقدم والرقي.
لما قرر صطوف الابتعاد والهجرة بعيدا عن بيت العائلة، إلى حي آخر قريب من مصدر رزقه كان يتردد أيضا. لأنه خوف التغيير، والخوف من تغيير الوضعية القديمة التي تساكن معها وألفها حد التماهي التام معها. ولما استطاع أن (يقرر) الخروج وهجران البيت القديم، كان يظن أن العائلة ستتمسك به وتريد أن يبقى في أحضانها، لكن الدهشة بل الخيبة الكبيرة ـ له ولنا ـ أن أباه كمن كان ينتظر هذا القرار. كحال مجتمعاتنا وبلادنا المقهورة يهجر شبابها وخيرة العقول فيها والكوادر والعلماء والمثقفين، لكن لا تلقي لهم بالا ولا تنزعج من ذلك كأنها تنتظر رحيلهم لكي تستريح ربما من إزعاجهم المستمر بسبب أفكارهم وتحريضهم للمجتمعات ونشر الوعي بالمشروع البديل للرقي لمصاف الأمم المتحضرة.
- دهشة النهايات كدهشة البدايات
حين أشارت في بداية النص “في حارة فرعية من حواري دمشق الشعبية ، حيث تساند البيوت العشوائية بعضها بعضا، وتقف كتفا إلى كتف في مواجهة الفقر” . فقد أنهت الرواية بهذا التطابق والتكاثف وجها إلى وجه وكتفا بكتف في مواجهة الموت. فجاء الوصف كالتالي:”رفع رأسه حتى واجه وجهها، أدار وجهها بقوة إليه، وأجبرها على النظر إلى وجهه، أخبرها بأنه لا يحمل في وجهه أي تشويه” لكن للأسف في عالم الموتى.
بالإضافة إلى ذلك الرمزية البارعة والدلالة العميقة على ما تفعله الأنظمة المستبدة بالشعوب فلا يتم الاعتراف بالمواطن الصالح الخالي من أي عيوب إلا بعد موته، لا يتم تكريم الفنان والمبدع والشاعر والروائي والمثقف والعالم في وطننا إلا عند تأبينه، في حين كان يتمنى أن يسمع ولو حمسا شيئا يحيل على ثقافة الاعتراف.
لكن الدهشة الكبرى لما استعاد وجهه الكامل دون تشويه، هشمه على قضبان السجن، ولم يستطع أن يعيش دون تشويه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- محمد لحسن الحراق: كاتب وشاعر مغربي مقيم ببلجيكا، شارك بهذه الورقة في ندوة غرفة 19 التي تديرها الأديبة اللبنانية المهجرية من سان دييغو بكالفورنيا. مساء يوم الإثنين 04/12/2023
- هل يوجد نص في هذا الفصل، ستانلي فيتش أستاذ الأدب المقارن بأمريكا. ترجمة أحمد الشيمي ومحمد بربري. الطبعة الأولى سنة 2004 عن المجلس الأعلى للثقافة المصرية بالقاهرة، تحت إشراف جابر عصفور.
- لذة النص، رولان بارت. ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان . دار النشر توبقال الطبعة الأولى سنة 1988. الصفحة 62
- الوسيط والوسائطية، تأطير لساني ودراسة إجرائية لرومان جاكبسون . الدكتور حيدر غضبان، دار ركاز الطبعة الأولى 2022.
- التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، مصطفى حجازي. المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة، سنة 2005 . الصفحة 123
- الانسان المهدور، دراسة تحليلية واجتماعية، مصطفى حجازي. المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، سنة 2005 الصفحة 55
- متلازمة ستوكهولم Stockholm syndrome هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف. وتسمى أيضاً برابطة الأَسْر أو الخطف وقد اشتهرت في العام 1973 حيث تُظهر فيها الرهينة أو الأسيرة التعاطف والانسجام والمشاعر الإيجابية تجاه الخاطف أو الآسر، تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه. هذه المشاعر تعتبر بشكل عام غَيْرَ منطقية ولا عقلانية في ضوء الخطر والمجازفة اللتين تتحملهما الضحية، إذ أنها تُفهم بشكل خاطئ – عدم الإساءة من قبل المعتدي – إحساناً ورحمة. وقد سجلت ملفات الشرطة وجود متلازمة ستوكهولم لدى 8% من حالات الرهائن.
- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي. دار النفائس الطبعة الثالثة لسنة 2006، الصفحة 114
- نفس المصدر ، الصفحة 125