يتناسقُ العنوانُ ليكونَ خارطةَ طريقِ الرواية فيلمعُ نجمُها قبل الغوصِ في بحرِ حزنها.
ندخلُ الى حقلِ الرواية، فنجدُ فيها مواسمَ أدبية وسياسية واجتماعية وتأريخية، لحقبةٍ مهمةٍِ من تاريخِ لبنانَ.
نحتارُ عن أيّ حصادٍ نكتبُ، فالسلالُ ملأى بعناقيدْ الأدبِ الروائي، بأدبِ الرسائلِ وأدبِ الحبّ والحربْ.
نجدُ الأنثى القوية، بالرغم من ضعفها، في عائلةٍ كسرَتْ أحلامَها، بأبوّة وأمومةٍ حقيقيّةٍككل طفلٍ مولود.
تصمدُ عبر إصرارِها وإرادتِها التي لا تهتزُ، كيف لا وهي تنْصَهِرُ بالقلمِ روحاً، تُحركُ مشاعرها عبر دواءِ الكتابةِ وتزرعُ بين الدروبِ الشائكةِ دربَ العلمِ وبذورَ المعرفةِ والثقافة، بشوقٍ لحياةٍ هانئةٍ مع حبيبٍ لامسَ قلبَها. تشدو الحنينَ في حبرها، شدوَ العصافيرِ للحريةِ في سجنِ العذابِ والأسى بانتظار انبلاجِ نورِ فجرٍ جديد.
مفرداتٌ كُتبَتْ بشفافيةٍ، قصةٌ رُويتْ بحبِّ الأدبِ، بقلمِ أديبٍ صادقِ المشاعرْ، فرحنا نغوصُ في وجعٍ لا يتوقفُ عبر حبرٍ لا ينضب.
تمخرُ رلى عبابَ البحر بعواطفه الهوجاءْ، بأفكارٍ واضحةِ المعالم، نقيّةٍ كنقاءِ قلبها، كتبتها بحبرِ الوجع والتمرد، وكأنها تفرشُ لنا دروباً على طريقِ الجلجلةِ عبر خيالٍ سحري وحلمٍ منشود. تخوضُ غمارَ الغربةِ بغربةٍ عن الذات، وبقسوةٍ. فهي غريبةْ في أرضٍ غريبة. ص٢٦٦ تتنقلُ بين نكباتِ الأرضِ وقسوةِ العائلةِ ومرارةِ القدرْ.
أما الوجدانياتُ فتنقلتْ عبر قلمِ رلى وحواراتٍ وصفتْ لنا مشاعرَ الوحدةِ القاسية التي عانتْ منها فأخذتْ قلماً وكتبتْ أوجاعَها ليواسيها قلمُها ويُضمّدَ جراحَها على الورق. ص ١٦٤. القلمُ ذاتُه حملها من غربةٍ الى غربة، فوضعتْ مكنوناتِ الروح وخواطرَها بجمالٍ سحريٍّ وأسلوبٍ أدبيٍّ يأْسِرُ الألبابَ.
فكانَ هاجسُها نبعَ صلاتها وأمَلها بالغد لتحقيقِ الحلمِ ولو كانَ الثمنُ ثورةً وتمرداً على الأهل.
أمًا في مطارِ بيروت، فرحلةُ الوحدةِ حملتْها إلى غربةٍ عن الأرضِ التي أحبّتْها، فكانتْ موجعةً ومؤلمة. فاجعةٌ أخرى على دروبِ الجلجلة ص١٥١.
ويبقى الأملُ عبر القلمِ، تحملُه في رحلةِ البحثِ عن الذاتِ عبر مناجاةِ الله :
” ماذا فعلتُ لكِ أيتها الحياةُ كي تحطميني وتجعليني رماداً على أرضك السوداءَ تنثرُها الريحُ مع كلِّ هبوبٍ “. ص٢١٨
رلى ناسكةٌ في صومعةِ الحب والحبرِ، تتأملُ في جدوى وجودِها عبر سراجِ الإيمانِ وشعلةِ الحبِّ النابضِ في قلبها. يُحالفها الأملُ، تصمدُ وتُواجهُ فتُجابهُ لتصلَ إلى مرمى الحبيبِ لأنّ الحبَّ هو الأنقى، والعلمُ هو سلاحها الوحيدُ للوصولِ إليه. رلى شمعةٌ تذوبُ على مذبحِ الحب والحرب في محرابِ الحزن والفقد والضياع والتشردِ والوحدة .
لن يُسعفْها سوى الحبيبُ الذي كتبتْ على إنجيلِ عينيه أبجديةَ عمرها. ص٢٢٢
الحياةُ لا تتوقفُ، والموتُ يحصدُ المئاتَ والتشردُ يُسقطُ الناسَ في خريفِ الحياةِ على مرمى رصاصةٍ أو غدر. وفي خريفِ علاقتها بأهلها بالتبني، تسقطُ كأوراقِ الخريفِ في رهبةِ الصمتِ فلا تبوحُ سوى للحبيبِ والورق. ص ١٦٦.
تذوقُ لوعةَ الفراقِ على دروبِ الشقاءِ فيكونُ الحبُ خبزَها والايمانُ قوتَها والأملُ خميرتها والعلمُ مؤونتها. درسٌ وغربةْ وشقاءٌ، بالقلمِ ارتقاءٌ وبالإرادةِ صفاءٌ ووصول.
تستنكرُ وتتفاجأ، تصرخُ وتبكي، تصمتُ وتصلي، ترسمُ لوعَتها، تكتبُ ثورتَها، تزرعُ نقمتَها وتُباشرُ حروبَها. لا يشبعُ الحزنُ منها حتى يبتلعَ الموتُ جسدَها. إحساسٌ مرهفٌ وشعورٌ انساني، بفعلِ نار الحرقةِ، من رمادِ عائلةٍ ظالمةٍ، تُهدَر فيها حقوقُها. كيف لعائلةٍ أن تُعاملَ ابنتَها بهذة القسوة ؟ فتساقُ خادمةً في غربةٍ ليس فيها لها سوى الصلاةَ والتعبّدَ لمريمَ العذراء. ص٩٧
وتكمنُ لعبةُ السياسيينَ الذين يعملونَ لمآربهم ومصالحهمْ ولا يأبهونَ بالقتل والتدميرِ ونزفِ دماءِ الشهداء ليرووا بها ترابَ الوطن .
لقد أوغلَ الكاتبُ في رحابِ الحبرِ، حزناً، على وطنٍ قادتْه الأقدارُ بغربةِ أهلهِ وتهجيرهم وتشريدهم، فعانقَ بقلمهِ سوادَ أيامِ لبنانَ عبر سرديةٍ نثريةٍ وروحانيةٍ عاليةٍ، وُلدتْ من رحمِ الألمِ والمعاناة. فكتبَ أوجاعَ أهله وشعبه في ثلاثيةِ أسماء، وثنائية الأرض والشعب والوطن / الكيان.
تمتدُ طريقُ الأحزانِ من صدرِ والدٍ قتيلٍ إلى قلبِ منزلٍ من نفسِ هويةِ القاتلِ، فأحاطَ الطفلةَ بالحب والحنان، ثم الى قلبِ ميتمٍ فمنزلٍ، لا يعرفُ أهلُه الرحمةَ. بوحٌ شفافٌ ووجدانياتٌ حالمةٌ، آسرةٌ على لسانِ رلى في الغربةِ، وفي رحلةِ البحثِ عن الذاتِ والمصيرْ، في غربةٍ عن الأهلِ والوطن.
أبعادٌ جمّةٌ لم يُلمّعْ الكاتبُ صورتَها بل كرّسَ لها فصولاً وأحداثًا، ليستْ عن عبثٍ بل من عِبَرٍ، بحكمِ العارفِ والمُفكّر. كتبَ الراوي حبَّهُ للشوف وعشقَهُ لترابِ الوطنِ وخوفَه على مصيرِ أبنائِه المشرذمين في أصقاعِ الأرض. قالَ كلمتَه على لسانِ رلى و/أو شبلي فصرّحَ بالتجربةِ المأساويةِ، لحبيبينِ أبعدَهما أهلٌ وغابَ عن ربوعهم الحبُّ الأبوي والأخوي وحنانُ الأمومة. من سراديبِ الليلِ الأسود، حبكَ شخصياتِ روايتهِ، من شعبٍ أرهقتهُ الحروبُ وربطَ حياةَ رلى بحيواتِ الأهلِ في كيانِ اللبنان.
وهو القائلُ حيثُ يكونُ وطنُكَ، يكونُ قلبُك. فكانَ قلبُه في الشوف، وكان لبنانُ، فسارتْ رلى على دروبٍ وجلجلة، رمتـ عنها أسماءَها وخففتْ حزنَها العتيقَ الذي كانتْ تحمله في حقيبةِ الوجع، فقلبُها لم يعدْ يحتملُ الصلبَ على مشارفِ الانتظارِ، في عتمةِ التراب. ص٣٧٤.
ثلاثيةُ أسماءٍ والجسدُ واحدٌ والضحيةُ واحدةٌ.
قصةٌ انسانيةٌ تدفعُ ثمنَها تلكَ الطفلة التي وافاها الخريفُ في عزِ الربيعِ، فأذبلَ نضارتَها ص٣٢٧. وهي التي لم تخترٌ اسمَها ولا أهلها ولا دينها ولا وطنها ص. ١٨٧
حياتُها أشبهُ بحديقةٍ نبتَ فيها الأخضرُ وغشاها اليابسُ. ص٢٨٧
لم أستطعْ تشذيبَ أغصانِ شجرةِ الرواية بالكامل، فلستُ من زرعها ولا رويتُها بماء القلبِ ووجد الفكر بل أكلتُ من ثمارِها وتلذذتُ بكلّ ألوانها. ولو ملكتني الدّموعُ غالباً، فهذه الرواية هي غذاءٌ لمن يشتهي الأدبَ وارتواءٌ لعطاشِ الفكر واحتواءٌ من كوامنِ القلبِ وقناديلِ عرشِ المفكرِ، واهتداءٌ لمن ينتظرُ النورَ والخلاص على خشبةِ الصلبِ ودروبِ الجلجلة. ص٢١٣.
تحوّلتْ جرثومةُ الحربِ لصفعةٍ لمن قامَ بها وساهمَ بتدمير الأرض والانسان فهل يستفيقُ أصحابُ الضمائر؟
هل نقرأُ لنتعلمَ فتُعلّمَ فينا الروايةُ لنعبرَ دروبَ الحياةِ كي لا يبقى في وطننا طفلةٌ أخرى غريبةٌ في أرضٍ غريبة ص ٨٢،
غريبةٌ في زمانٍ ومكان ٢٦٦
نكرة ٧١
لقيطة ٧٧
كما وردَ على لسان رلى ص٧١.
طفلةٌ أُلقيتْ في بحرٍ وهي لا تجيدُ السباحةَ ص٨٢ وتتقاذفها أقدارٌ لا ترحمُ، فهل يُفرّخُ الغصنُ اليابسُ ؟ ص١٦٦
خيطُ الأملِ لا يُقطعُ في وطنٍ مظلةٍ لو توفّرَ الأمانُ العائليّ .ص ١٠٠
هنيئا للشوفِ، منبتُ الرجالِ ٢٤٣ بمدادِ قلمٍ لن تفرغَ محبرتَه .
روايةٌ جميلةٌ كجمالِ رلى، وعليلةٌ كنسيم الحب، ورشيقةٌ كرسالةِ قلمِ الكاتب، تقتلنا كما قتلَ الغريبُ أهلنا، وتُلازمنا كما تُلازمُ الورودُ الربيعَ وتحضننا كما حضنتْ منال -هيفا وميسا – لميس. فبعد الحروبِ سلامٌ وبعد النكبةِ فسحةُ أملٍ وبعد الدروبِ جلجلةٌ فصلبٌ وقيامة.فكم من لميس وميسا أو هيفا أو رلى ما زالت تنزفُ في أرضٍ ووطنٍ تتماهى فيه رواياتُ الدهشةِ، بعذوبةِ الكتابةِ وعذابِ الكتاب على كوكبِ الخيبةِ فينتحبُ الحبرُ على الورق.
رنا سمير عَلَم