نامت جدّتي خلال الفيلم الوحيد الذي اصطحبها جدّي إليه.
أمسكت حفنة الحصى التي كانت تخفّف، بل وتمنع، آلام الرّأس التي تضربها عادةً كلما ركبت سيارة؛ وانطلقت من قرية بقاعيّة منسيّة إلى بيروت.
لم أكن قد وُلدت بعد! فهذه قصّة روتها لي “ستي” مراراً، وكنت أعجب كيف وصل كلٌّ من جدي وجدتي إلى السينما في بيروت، بينما لم أعرف السينما حتى مراهقتي.
سافر جدّي ثمانية عشر عاماً لم يرجع خلالها أبداً. كبرت جدّتي ودخلت سنّ اليأس… كان بطنها يكبر بعمّتي الصغرى حين غادر زوجها، ويوم عاد كانت عمّتي قد تزوّجت وسافرت. لم تعرف والدها!
لاحقاً ستزور عمّتي لبنان وتتعرّف على شكله، وشعره الكستنائي، وعينيه الزرقاوين، وكلّ كلامه الذي لم أكن أفهمه. أمّا جدتي، فلا أدري كيف ربّت عمّتي بمفردها، بل وربّت شقيقاتها وأشقاءها.
لعلّ هذه القصة جديرة بفيلم أو رواية، لكنها مرّت على نساء كثيرات في قريتي والقرى المجاورة دون أدنى التفاتة منهنّ إلى قساوة ما عانين في ذلك الكفاح… لم يكن كفاحاً حتى بالنسبة لهنّ، كان روتيناً طبيعياً. وانتهت حياتهنّ بذلك الشكل!
عاد جدّي من رحلته الطويلة، ولن أعرف أبداً إن كانت جدتي بانتظاره… وماذا كانت تنتظر؟
كان يخبرها عن مغامراته في فنزويلا، وتنتظر هي بشغف نهاية قصصه الكثيرة، حتى تتعرّف على شكل النهايات التي فاتتها خلال غيابه. أمّا نهايتها هي، فكانت تحفظها:
تتنقّل يوميّاً بين الطابق الأرضيّ والطابق العلويّ، ثم تعرّج على بيت أهلها المُقفَل تطمئن على جزئه العلويّ والأرضي ّكذلك، ولا تنسى أن تتقدّم خطوات إضافية فتمنح منزل ابن شقيقتها الوحيد والبعيد تباريكها بشقّيه العلويّ والأرضيّ… مفاتيح كثيرة!
حين أُصيبت بالزهايمر، رافقتها المفاتيح.
جدتي الرشيقة لم تخذلها طاقتها… بل خذلتها المفاتيح.
كنت أراقبها أحياناً تنطلق مسرعة في الدار التي تجمع بيت أهلي ببيت جدي، ومعها مفاتيحها الكثيرة، ولا تكاد تصل بيتنا حتى ترجع إلى بيتها…
“إنتِ مضيعة يا ستي”، وهي على وشك البكاء نظرت إليّ راجية تعبيراً آخر.
“مضيعة المفاتيح”، استدركت.
كان لديها تلفاز صغير، لا أذكر إن كان ملوّناً… وعلى الأبيض والأسود تابعت جدتي بعض أخبار الأردن وسوريا، ولعلّها تابعت على تلفزيون أهلي صوراً أكثر تشويقاً من ذلك العالم الخفيّ الذي بقي غامضاً في ناظريها.
أفكر بشكل العالم في رأس جدتي كلما طالعت الـtravel reels المنتشرة على صفحات السوشال ميديا.
ربما كان خيالها أجمل، إنما يُصرّ عليّ سؤال آخر: هل أدركت جدتي أن العالم موجود كذلك خارج بيتها وبيت أهلها ثم بيت شقيقتها؟
زارت بيروت إذن لتُشاهد فيلماً، في محاولة من جدي (ربما) لأدلجة زوجته كي تكون مثل ماريا أو تيريزا أو أيّ امرأة لاتينية…
لكن جدتي شكيبة نامت خلال الفيلم، وربما فكّرت في دجاجاتها وقططها والغبار الذي تجمّع في بيت أهلها بعد غياب يومٍ واحدٍ عنه.
غرفة جدتي كانت غرفة استقبال وغرفة نومها… بيتها الكبير بقي كبيراً حتى بعد وفاة جدي قبلها بسنوات.
كان لجدّي الطابق العلويّ صيفاً، وغرفة مضافة إلى البيت الأرضي شتاءً… أمّا غرفتها هي فلم تغيّرها.
غيّرت وجهة فراشها في سنواتها الأخيرة نحو القِبلة،
كانت تردّد: “كرمال بس يجي عزرائيل كون جاهزة”
