هذا ما قرأتُ عنه قبل أسبوعَين، وهو أن أحدهم اشترى “عبر الهاتف” (أي من دون أن يكشف عن وجهه، أو اسمه)، في مزاد علني بباريس، قصيدة ورسالتين تعود إلى الشاعر الفرنسي الشهير أرتور رامبو.
ثم قرأتُ، قبل أيام، أن هذا المشتري المجهول تبرعَ بما فاز به إلى متحف رامبو الكائن في مدينة الشاعر الملعون في شمال فرنسا.
هذا ما طلبتُ معرفته في نهايات الثمانينيات، حيث حضرتُ مزادا علنيا في باريس طاول عددا من نصوص الشاعر الملعون الآخر : شارل بودلير .
يومها انتبهتُ إلى وجود سيدة في الصف الأمامي في “أوتيل دروو” الشهير، كانت تكتفي برفع إصبعها عند نهاية كل مزاد، فيشير الدلال، منظم البيع، إلى أن السيدة فازت بالمزاد.
اشترتْ السيدة جميع مواد المزاد، بعد أن استعلمتُ من الدلال عما جرى. وأفادني أن السيدة تمثل الدولة الفرنسية، وهي لا تشترك في المزاد، لكنها تستطيع – فيما لو أرادت – شراء أي نص معروض للبيع، وفق السعر الذي تكون قد انتهت إليه المضاربة.
الدولة تعمل على تملك ما تستطيع تملكه من مسودات كتب ونصوص ورسائل الكاتب الراحل.
هذا من واجبات الدولة، وهذا من حقوق الكاتب لدى دولته،
أي حفظ ذاكرة الأديب.
أتفكر في هذا، وأنا أعلم أن كثيرا من الأدباء العرب الذين عرفتُ، سألتُهم عما سيكون عليه “مصير” مسوداتهم الأدبية، فكان جوابهم من دون أي استثناء : أتلفُ جميع مسوداتي، ولن أتركها مادة للحفظ، أو للدرس عن أحوال النص قبل صيغته الختامية والمنشورة بالتالي.
هذا ما سعيتٌ إلى درسه، مع ذلك، في بعض قصائد السياب (أي ما توافر من أحوالها النصية المختلفة)، وفي عدد من طبعات أكثر من مجموعة شعرية لأدونيس (أي ما أعاد صياغته وتعديله، ولم “ينقحه”، مثلما قال عنها).
إلا أنني أتفكر في هذا في وجهة أخرى كذلك، ما يَندرج في السؤال : هل تَعمل حكومات عربية على حفظ حقوق الوطن في إنتاج مبدعِيه ؟ هذا ما تم ويتم العمل عليه أحيانا في تحويل بيت الراحل إلى متحف، إلا أن لهذا العمل عائدا سياحيا في المقام الأول : تشجيع الزوار على الزيارة، وتكديس مال هذه الزيارات وما يتفرع منها.
أذكرُ أنني شاهدتُ، في مؤتمر شاركتُ فيه في القاهرة عن توفيق الحكيم، ربطة عنقه الصغيرة مع متبقيات أخرى له، مثل بعض النياشين والميداليات ليس إلا، فوق طاولة صغيرة في بهو إحدى قاعات “المجلس الأعلى للثقافة”.
إلا أن هذه الأحوال، التي تصيب أدباء وممثلين وغيرهم من صناع الإبداع العربي، تصيب أكثر من هذا بكثير : يموتون في العوز، ولا يجدون أحدا يتكفل بمصاريف شيخوختهم، أو مرضهم.
هل يُعقل أن ممثلة، مثل سعاد حسني، التي جلبتْ البهجة إلى ملايين وملايين من معجبِيها العرب، طوال أكثر من عقدين، افتقرتْ، في سنة مرضها،
إلى من ساعدها في مرضها ؟
هل يٌعقل أن شاشات أكثر من تلفزيون لبناني تحولت إلى شاشات إسعاف لهذا المريض أو ذاك ؟ هل يُعقل أنني تلقيتُ من كاتب عربي صديق دعوة لإسناد كاتب لبناني من الصف الأول في محنته المالية، وهو في شتاء العمر ؟
أقول هذا بحسرة شديدة، كما لو أنني أقوى فعلا على سحب دولار واحد مما ادخرتُ، أو من تعويضي الجامعي، القابعة في عتمة المصارف المفرغة !
(مقال الاثنين، جريدة “نداء الوطن”، بيروت، 4-3-2024).