28-06-2022 | 11:12 هنري زغيب بيروت- النهار العربي
للشعراء والفنانين مزاجُهم الـمُغاير. والكثيرون منهم ينعكس مزاجهم على كتاباتهم وأَعمالهم التشكيلية والمسرحية والموسيقية وسواها. من هذا المزاج، أُطل اليوم على قراء “النهار العربي” برسَّامين أحبوا المطر وشُغِفوا بمناخه وطقوسه في الطبيعة، فخصصوا عددًا غيرَ قليل من لوحاتهم لرسم المطر في شاعرية ونوستالجيا ومناخٍ منه اللطيف ومنه الغاضب. واخترتُ من تلك الأَعمال عشرة تشهد على ذاك المزاج المغاير، بما فيه دقة العمل على تفاصيل اللوحة في تقْنية مذهلة
هنا، في جزء أَول، خمسٌ من تلك اللوحات، في عصور مختلفة لرسامين مختلفين
1. عاشقان تحت المطر
في لوحة قديمة من الهند في القرن الثامن عشر، يظهر الإِله الهندوسي الأَكبر كْريشْنا، وهو غالبًا ما يظهر لدى معظم أَعمال المحترفات في راجِستان (ولاية ملَكية في شمال الهند). يتجلَّى كْريشْنا دائمًا في بشَرته الزرقاء ولباسه الأَصفر، ويظهر دائمًا مع رئيسة حاشيته الدائمة “راذا” إِلهة الحب والحنان والتفاني، تفصلهما عن سائر مَن في اللوحة هالةٌ خاصة بهما. في عيون هذا الثنائي الإِلهي تقاطُع واحد ونظْرة واحدة واحدهما إِلى الآخَر تدلُّ على العشق الولهان بينهما، كما يدل عليهما ما يرتديان من ثياب وجواهر. وفي هذه اللوحة (“كريشْنا يحمي نساءَه من المطر “) يَظهران وسْط حديقة جميلة تظلِّلُها أَشجار كثيفة وتتوزع فيها أَزهار ملونة في فضاء من الربيع الزاهي. وترمز البقرة والعجل في مقدمة اللوحة إِلى نشْأَة الإِله كْريشْنا في ڤرينداڤان (منطقة ريفية في الهند القديمة معروفة بالأَبقار المقدَّسة). صحيح أَن المطر لا يظهر جليًّا في اللوحة، لكنَّ في الغيوم السُود، والمتزاحمين تحت الغطاء، ما يدل على لجوئهما من زخّ المطر
“كريشْنا يحمي نساءَه من المطر” (ترجيحًا: القرن التاسع عشر)
2. مطر على صفحة النهر
هذه اللوحة (“نقاط المطر في نهر يــيريس”) تعبّر عن الأثر النفسي للمطر. ترقى إِلى القرن التاسع عشر للرسام الانطباعي الفرنسي غوستاف كايبُوتّ (1848-1894)، وهو كان من عائلة ثرية، أَمضى عددًا من فصول الصيف في بيت أَهله الصيفي على ضفة نهر يــيريس (ضاحية باريس الجنوبية – 18 كلم عن وسط باريس) فظهرَت في الكثير من لوحاته. تبدو فيها المياه كأَنها في مرآة، وكأَن نقاط المطر تخدش هدوء صفحة النهر الصافية.
هذه اللوحة الزيتية متأَثرة بفن الحفر الخشبي الياباني، ويظهر ذلك بشكل اللوحة العمودي، وحجم نقاط المطر الكبيرة، ودقّة التفاصيل. وكل ذلك يولِّد في اللوحة الشعور بحنينٍ قد يكون من استذكار كايبوت صيفيات طفولته في تلك البلدة وتمضيته صغيرًا أَوقاتًا لاهيةً على ضفة النهر مع أَترابه
غوستاف كايبوت: “نقاط المطر في نهر يــــيريس” (1875)
3. القطار يقتحم المطر
يبدو واضحًا، من النظرة الأُولى إِلى هذه اللوحة، منظر قطار أَسود يشق طريقه على السكة الحديدية بين زخَّات المطر. ويبدو إِلى يسار اللوحة قارب يتهادى في المياه محاذيًا مرور القطار. كما تبدو واضحةً خبرة الرسام الإِنكليزي جوزف تورنر (177501851) في تصوير القطار، وكان عصرئذٍ علامة بارزة مع مطالع الثورة الصناعية، ما يثير اهتمام المتلقِّي وهو يتأَمل القطار في اللوحة. ومع أَن الرسام تعمَّد الضبابية في جو اللوحة، يبقى فضاؤُها معبِّرًا عما أَراده من مناخ المطر
القطار هنا يَعبر جسر “مايدن هيد” الحديدي فوق نهر التيمس، لكن هدف الرسام أَن يُبرز العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا، كما مرتقبًا زمنًا تاليًا ينبثق من هذه العلاقة. وبين عناصر الشهرة، لهذه اللوحة من القرن التاسع عشر، أَنها كانت أَول لوحة عُرضَت في الأَكاديميا الملَكية سنة 1844. ولا تزال اليوم محفوظة في “متحف لندن الوطني”
4. عابرون تحت المطر
هذه اللوحة (“مُهَرْولون تحت المطر”) هي للرسام الأَميركي جون فيليب فالْتِر (1910-1982). وهو شريك أَساسي في مجلة “ساترداي إيفننغ پوست” (“جريدة السبت مساءً” – تأَسست سنة 1821)، خدَم فيها نحو 25 سنة رسَّام الغلاف والداخل، ووضع لها نحو 120 غلافًا
هذه اللوحة ” مُهَرْولون تحت المطر”، صدرَت غلاف العدد الصادر نهار 7 تشرين الأَول/أُكتوبر 1961، وتمثِّل 19 شخصًا يغادرون محطة القطار ويَعبرون الرصيف راكضين تحت المطر، مذعورين مُهَرولين، يحتمون من المطر بالمظلَّات والشالات والصحُف، ويبدو عليهم الذعر واضحًا من تفاصيل دقيقة برع الرسام في إِظهارها
جون فالْتِر: “مُهَرْوِلُون تحت المطر” (1961)
5. ريحة المطر في آرل
الفترة التي أَمضاها ڤنسنت ڤان غوخ (1853-1890) في عيادة قريبة من مدينة آرل (جنوبي فرنسا) سجَّلت زخمًا مكثفًا في إِنتاجه لوحاتٍ متلاحقةً على الرغم من هشاشة صحته. كان يقف إِلى النافذة من غرفة نومه فيُطلُّ على حقل من القمح عند سفح جبل الأَلپ، فوضع لهذا المشهد لوحات كثيرة رائعة
في هذه اللوحة (“مطر على حقل القمح”) يَظهر حقل واسع من القمح رازحًا تحت زخات المطر الشديد. استعمل لها ڤان غوخ أَلوانًا رمادية قاتمة ليُظهر شدَّة المطر المنهمر عنيفًا، ضاربًا رُؤُوس سنابل الحقل. وهنا أَيضًا تبدو واضحةً تأْثيراتُ فن الحفر الياباني من خلال الخطوط المتوازية التي تخطِّط خيوط المطر على القماشة البيضاء. وبَرَع الرسام في دقة بالغة عند تصويره حبوب المطر القريبة من نافذته
فان غوخ: “مطر على حقل القمح” (1889)