ما كنتُ أحلُمُ سوى بيْ :
تُرادُ ألوانٌ لها وتُطلَبُ
وأن تدومَ ربوتي مطلّةً على المدى
في همّةٍ تخلعُ ثوبَ جدبِها
وتنتشي أشجارها
وفوقها ظباءُ ما أحبُّ
تلهو فرحًا وتلعبُ
وأنْ يصيبَ مِدفعي أهدافَهُ بقوّةٍ ودقّةٍ
وأنْ يطولَ ليْ إذا ما جاءني وحشٌ يريدُ نهشَ لحمي مِخلَبُ
وأمتطي مَتْنَ بروقٍ
لا يخيبُ خطوُها
ولا يُشَلُّ عزمُها
ولا يغيبُ صوتُها
مبتسمًا مرتِّلًا
نحو بقاعٍ لا أرى فيها انحنائيْ أذهبُ
وأنْ تكونَ كعكتيْ الأحلى
وأنْ يكونَ عرسيْ أجملَ الأعراسِ
فيه الرّقصُ ليسَ ينتهي
ومِنْ نبيذٍ فيه أنسى ما أُذقتُ مِنْ سمومٍ أشربُ
وأنْ أصونَ مكتبيْ مِنَ الغبارِ
ومِنَ الدّودِ
ومِنْ عُوْدِ ثِقابٍ أهوجٍ
حتّى أظلَّ قارئًا مستيقظًا وفاهمًا ما يُكتَبُ
ما كنتُ أحلُمُ سوى بي :
أنْ أقدِّسَ مزاميريْ
وأنقشَ عناوينيْ على جدارِ فضّةٍ أقمتُهُ
وأسقي نخلتيْ
لتقهرَ الفناءَ والهُزالَ والغيابَ
يا كم عشتُ حالمًا
وأبقى حالمًا
وحدي أنا
وليسَ آخَرٌ معي
أطعمُهُ خبزَ حكاياتي
وأسقيهِ شرابَ يقظتي
وهكذا أمشي طريقي نائمًا ولستُ أصحو
إنّني عشتُ لنفسي
ظالمًا نفسي
فقد تغرّبتْ عن نفْسِها
وأصبحتْ تائهةً ساقطةً في هُوّةٍ سحيقةٍ تلدغُها حيّاتُها
فانكسرتْ مرآتُها
وانهزمتْ جيوشُها
ولمْ تعُدْ لصوتِ لحنٍ تطرَبُ
وهْيَ تظنُّ أنّهُ لن تنتهيْ أيّامُها
ولن يُهَدَّ سقفُها
آهِ
وآهٍ
كم قضيتُ عيشتي مغيَّبًا
وما دريتُ أنّني مغيَّبُ
—
القس جوزيف إيليا
******************************************
التحليل النقدي للقصيدة
مطلع استهلالي يثير إنتباه المتلقي إلى ما يريد أن يقوله الشاعر، عبر حديث النفس انه حديث داخلي غير مسموع، يجري في عالم أحلام وخيالات تعيش مع الشاعر في كل مجريات حياته وهي الهدف الأسمى الذي يسعى لتحقيقه.
وحين يغرق الشاعر في أحلامه لا يشغله شيء سوى أن يحقق هذه الأحلام حتى ولو كانت شيء من ضرب المستحيل.
وأحيانا يضحي بنفسه من أجل تحقيقها
والسبب في ذلك أنه يسعى من أجل أن يزرع الحرية في كل بقعة من بقاع الأرض ويحاول جاهدا أن يرسم البسمة على وجوه الأطفال والفرح على وجوه الأمهات
لذلك قال
أنْ تظلَّ نجمتي مضيئةً نقيّةً
تُرادُ ألوانٌ لها وتُطلَبُ
وقد عبر عنها بطريقة بلاغية جميلة عندما وصفها بأنها مضيئة ونقية وهذا النقاء له عدة معان عامة وخاصة .. فالعام منها معروف ومشاهد ..
أما الخاص فهو المراد من الوصف وله علاقة ببناء القيم الإنسانية ونقاء قلوب البشر التي تنبذ الظلم والشر وتسعى الى الحرية وتزرع بذور المحبة في كل مكان
ان الوصف الدقيق للجانب الأمثل في الحياة يتطلب من الشاعر مضمون علمي دقيق يستند الى حقائق الحياة وحقائق هذا الوجود التي تسير وفق نظام دقيق حقيقية كانت أو عرفية أو تجريبية وهذه الحقائق يجب التعامل معها بكل صدق وإخلاص وهذا الأمر يقود إلى المثالية في التعامل الإنساني وهذا ما سعى إليه الشاعر في مسار القصيدة وانتقالاتها .
وقد إشار الشاعر في من خلال المعالجة الفنية والمناقشة المنطقية الدقيقة لكثير من القضايا أن الكلمة الصادقة والمواقف الحقيقية غير قابلة للتبدل ولا التغيير ما دام الانسان ثابت على مواقفه وهو يستمد قوته وثباته من خلال الحقائق التي أشرنا لها
وهذا ما نلمسه في هذا الجزء من القصيدة
وأن تدوم ربوتي مطلة على المدى
في همة تخلع ثوب جدبها
وتنتشي أشجارها
مع هذه الثقة العالية والرغبة الصادقة ينتقل الشاعر للدفاع عن مبادئه والقيم التي سعى من أجل الحفاظ عليها والمسار الذي اختطه وسار فيه على خطى من سبقه لذلك قال:
وأنْ يصيبَ مِدفعي أهدافَهُ بقوّةٍ ودقّةٍ
وأنْ يطولَ ليْ إذا ما جاءني وحشٌ يريدُ نهشَ لحمي مِخلَبُ
وفي هذه الأبيات التي تصرف الشاعر في تراكيب جملها بأسلوب بلاغي جميل من التقديم والتأخير والاستعارة المكنية التي أعطت النص رونقا يستقبله المتلقي بدهشة لما يلمسه من ترتيب بديع ، وكانت رسالته قد وصلت بصورة سهلة وسلسة وباسلوب الشاعر المتمكن الذي يريد أن تكون فلسفته الفكرية مقنعة في المواقف الصعبة التي لا خيار فيها سوى المواجهة والثبات في سبيل الحق .
وامتطي متن بروق
لا يخيب خطؤها
وقد سعى الشاعر إلى استخدام كل ما هو متاح له من أجل الوصول إلى الأهداف المنشودة واستخدم صيغة تنكير البروق التي قصد امتطائها في إشارة إلى استخدامه كل الوسائل المتاحة لتحقيق أهدافه ولم يقيدها في صيغة معينة ومحددة
ضمن إطار معين، وقد مزج الشاعر بين الواقع الملموس الحقيقي وبين الامور المعنوية غير الحقيقية . وقد أطلق العنان لخياله لكي يتمكن من التوفيق بين حالتين مختلفتين وفرت للشاعر المناخ المناسب لتحقيق غايته في الاتجاهين اللذين أرادهما الشاعر في العملية الإبداعية للوصول إلى الواقع المدرك .
الحقوق الشرعية للإنسان فرضت نفسها في هذا النص لأنها من المطالب الأساسية في حياة المجتمع، ولا يمكن إهمال أي جزء منها أو التلاعب بالمعايير التي بنيت عليها. وتتطلب هذه الحقوق من الشاعر الإنتقال من مرحلة الرصد وتسجيل الملاحظات الى مرحلة المواجهة كنوع من انواع الدفاع والتكيف مع الظروف للوقوف بوجه التيارات التي تعصف بكل ما هو إنساني ونبيل لذلك سعى الشاعر لاتخاذ خطوات مناسبة لمواجهة هذه التيارات خطط لها مسبقا ورسم خطوطها في فكره لتكون بصمة واضحة في قصيدته وتميزت بالتحكم في عواطفة ومشاعره بالرغم من طبيعة المواقف الصعبة والضغوط التي تؤثر سلبا في الحالة الإنفعالية التي تظهر بصورة غضب وفوضى وكان الشاعر فيها متوازن الفكر والعاطفة وعنده القدرة على التحكم في تصرفاته لأنه أكتسب خبرات كبيرة من خلال تفاعله مع مختلف المتغيرات عبر سنين طويلة أعطته زخما كبيرا لمواجهة سلبيات عديدة مثل الإحساس بالعجز أو الضياع التي تؤدي إلى تثبيط همته عن مواصلة الطريق إلى تحقيق ما يسعى إليه، علما أن هذا التحكم منحه قدرات على التعامل مع هذه الظروف مما ساعده على إتخاذ قرارات فعالة وهامة لمواجهة مثل هذه الظروف واحداث تغييرات مهمة في السلوكيات والقيم وهذا ما نلمسه من خلال هذه الأبيات من القصيدة فيقول:
وأنْ أصونَ مكتبيْ مِنَ الغبارِ
ومِنَ الدّودِ
ومِنْ عُوْدِ ثِقابٍ أهوجٍ
حتّى أظلَّ قارئًا مستيقظًا وفاهمًا ما يُكتَبُ
ما كنتُ أحلُمُ سوى بي :
أنْ أقدِّسَ مزاميريْ
وأنقشَ عناوينيْ على جدارِ فضّةٍ أقمتُهُ
وأسقي نخلتيْ
لتقهرَ الفناءَ والهُزالَ والغيابَ
يا كم عشتُ حالمًا
وأبقى حالمًا
وحدي أنا
وليسَ آخَرٌ معي
أطعمُهُ خبزَ حكاياتي
تميز الشاعر بقدرته على الإبداع الفكري بطريقة فنية وباسلوب تعبيري هادئ أعطى القصيدة هذا البريق الجميل ، بالإضافة إلى تمتعه بملكة فكرية ساعدته على ابداع هذا النص المتميز .
انطوت شخصية الشاعر على الصبر والمواصلة بثبات، مما أعطته هذا النشاط الخلاق الذي أتاح له أن يعالج الواقع برجاحة عقل وحكمة، ومن خلال هذه المؤهلات استطاع أن يعطي هذه الصور المتنوعة والتي تمثل الواقع الذي يعيشه الناس الذي أضفى عليه صورا فنية مما اختزنه في ذاكرته عبر سنين مرت ثم صاغها بأسلوب شاعري جميل ومتوهج أعطى القصيدة شكلها الجميل والمؤثر.
قصيدة رائعة حملت في طياتها صورا خيالية بديعة صاغها الشاعر بأسلوب متميز ، الأساليب البلاغية والاستعارات كانت حاضرة وبعمق في القصيدة الترابط الموضوعي وتسلسل الأفكار أعطى النص ايقاعات جميلة تساعد على التفاعل معه بصورة إيجابية وتسهل على المتلقي فهم مقاصد الشاعر.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول إبداع وتألق..
تحياتي وباقات الورد والياسمين.

علي محمد العبيدي