ائما الشعر بحضوره الأمثل يفتح لنا طريق إلى الحياة
الشعر يبدأ من المحتمل ويماثل الموسيقى في الاحتمال، ومما يؤكد ذلك فن التشكيل، والشاعر حاتم الصكر في مجموعة دواوينه الأربعة، التي قامت بجمعها رائدة العامري وأشرفت على طباعتها وإصدارها عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، والتي عنونها (ربما كان سواي…في الدواوين الأربعة) يبدأ من الاحتمال، فكلمة ربما تذهب بعيدا في الاحتمال، في نطاق ترددي واسع، رغم أنها تشعرك بالانتماء إلى شيء ما، وكأنك فكرة في عالم مواز في أفكار تنهض في الرؤيا، ولا يدرك حضورها إلا في مطلق الزمان والمكان، فبعد هبوطه إلى برج القوس، وولوجه إلى الحياة، وقع تحت غواية الشعر، والبحث عن سر الكلمات، فهو يحاول أن يمسك بها كما تحاول الأشرعة أن تمسك بالريح، ويجعل منها سفراً في سِفْر الحياة نحو المجهول، هذا ما يخبرنا به الشاعر في ديوانه «ملاذ أخير» الصادر عام 1994 في اللاذقية، فهل الشعر شبيه ذات الشاعر؟ أم هو تعبير مجازي عن هذه الذات الشاعرة، على اعتباره ملاذه الأخير، فهو يختصر الحياة بكلمات قليلة
تأمل الذات الشاعرة… قصيدة حلم «أوراق الطفولة» نموذجا:
فإذا تأملنا هذه الذات الشاعرة في قصيدة حلم (أوراق الطفولة) سنجد أن فعل موسيقى الكلام في حرف السين المهموس، التي تبارك فعل الحضور الشعري، في كلمة أستل الدالة على الانتزاع والإخراج برفق فهي هنا ليست ذكرى الحاضر وانشطار الذهن، وإنما هي زمنان لحياة واحدة، زمن هنا في الحاضر وزمن تكور في الماضي، ولا يزال مستمراً، كأنما ننظر الآن إلى مرآة ذاتنا، ومن ثم ننظر في المرآة الزئبقية التي أمامنا، فالأمر كله كالحلم والحياة، وما يجمع بينهما في زمن واحد، فالشاعر الآن ليس الشخص الذي استله من نفسه، والشخص الذي استله من نفسه ليس هو الشاعر الآن، فهما الآن معاً فيهما، والشعر بينهما كفاصلة بين زمنين، فاللحظة هذه كحلم الطفولة الذي غادرناه مجبرين، لكن لا يريد هو أن يغادرنا، كضفة في نهر الحياة غادرناها وأصبح الرجوع إليها مستحيلاً فيقول الشاعر:
وأنا أستل من نفسي سواي
ثم أدعوه لبيتي
فأراه بين كتبي وثيابي
في المواعيد وأشيائي الصغيرة
سابقاً روحي إلى بئر الطفولة
إلى أن يقول الشاعر بعد أن دون مشاعره على موسيقى القصيدة في اختصار شديد يعادل تكثيف المعاني في النغمات على نوتة الحياة:
حينما أخرج من حلمي… أراه
يغلق الباب
ويمشي في خطاي
ما يراد التعبير عنه في موسيقى الكلام… قصيدة «أوراق العاشق /تذكارات» نموذجا
وفي قصيدة (أوراق العاشق /تذكارات) جاءت الذات/الأنا الشعرية على شكل مقطوعة موسيقية، حيث الشاعر بنشوة الشعر، كمن يجلس أمام آلة البيانو بمفاتيحها التسعة والتسعين بيضاء وسوداء كتقاطع الليل والنهار، وما بينهما كالغبش إذا تجلى، أو كالغروب وهو ذاهب إلى الأصيل بنغمات هادئة ناعمة ذهبية، ذاهبة في نسيج هارموني، لا نوتات معه تتسلق السلم الموسيقي، لكن الكلمات تنقاد إلى لحن القصيدة لتصور الفكرة بلمسات شعرية، فيرتجل حلمه داخل الحياة شعراً، ويحاول في تحولاته بالاحتمال أن يكتمل بالمعنى أملاً ورجاءً، فيقدم لنا موسيقى مرئية وملموسة، متوهجة في تأثيرها الإيحائي لحظة التجلي، وسنجد هذه الذات في حالة انزياح شعوري وعاطفي، وهي تحاول البحث عن الإيقاع المفقود، فهي روح تلتمس الموسيقي رؤيا في الصورة الشعرية التي تمثل ما يراد التعبير عنه فيقول:
ثملا بالشعر… وقاموس الأيام
ثملا…
بالحب
حديقته ملآى بورود لا تذبل
طول العام
كمليك
يختار ندامى
أو حاشية من زهر وندى
في محاولة لإدراك الحلم، قصيدة (حلم الشاعر) نموذجا:
السريالية ثمرة الحلم، وأعتقد أن هذا يوافق فكرة الشاعر في استرجاعاته السريالية، وهذا ما خطر على بال أندريه بروتون، وهو ينظر للحلم الذي لا تنظير له، ويحاول أن يجعل منه شجرة للوقت، وهذا ما جعل دالي يرسم الحلم كزمن يسيل من ساعات الوقت، وكأن الشاعر حاتم الصكر، أنجز وعده الأوفى لمقومات التبليغ والتكوين الجمالي للحلم السريالي، خياله الحلمي يصطنع للصورة الشعرية بعداً بصرياً قادراً على تمثيل صيغتها الحسية، مولدا للتأويلات الذهنية في أبعاده المنتجة للمعنى، لتكون القصيدة في أكملها رؤيا في محاولة لإدراك الحلم، تبدأ من الفكرة ثم السيناريو، ولا تنتهي بالتشكيل السريالي للقصيدة، حتى تتشكل موسيقى بنغمات ميتافيزيقية منتفضه، بسبب إيقاع النص بكثافته البصرية ورؤية الشاعر الذي يقول في قصيدة (حلم الشاعر):
– استرجاعات –
حلم يبصره الشاعر كل مساء: غيم يتكسر في أفق أسود
وخيول تقفز من شبّاك الريح
سماء تمطر أحجاراً
وثماراً يابسةً
إذ يأكلها الطير
يصير رماداً
في محاولة لخلق سحر فريد، قصيدة امرأة – بورتريه ناقص وقصيدة امرأة نموذجا:
كيف يستجيب الخيال الخصب لنداء ذاك اللحن، إنها تميمة الشعر لإكمال أرادته الطبيعة، فبوسع هذه الكلمات النبيلة التي تحولت إلى لوحة تشكيلة في كيمياء الألوان، أن تتشكل كموسيقى فضية بمزاج صوفي، وأن تستعيد بلغة شعرية مدهشة الفيزياء الحية أبداً لصوت /الموسيقى الكلمات التي ترى نفسها فيها، هذا ما يردده الكونترباص بسعة مساحته الزمنية بعزفه المفرد في الحركة الرابعة من السمفونية التاسعة لبتهوفن، ويستجيب له الكمان وهو ينادي على مجموعة الكمانات، كأنما هي والزمان في مطلق الحضور تحاول خلق سحر فريد لكيمياء نادرة للمحبة :
امرأة
– بورتريه ناقص
بعض الأصداف
وبعض الموج وقطرة ماء
لون من عطرِ
وجه من ضوء شعر في رائحة الحناء
عمق البحر
صمت الغابة
وفؤاد الطفل
في هذا البورتريه الفريد الذي لا يكتمل إلا مع الموسيقى سنجد أن القصيدة انتشت بفكرة التشكيل تحت إغراءات الابتكار الجمالي للجملة الشعرية في تشكيل اللوحة شعراً، لأن المثير للشجن لم يكن ما كان يقوله، بل الشغف الذي كان يقول به، وكذلك حركة الفعل الشعري في مشهد بورتريه القصيدة:
امرأة
– في جنائن غير معلّقة –
تتنزه في بيت طفولتها تختار جداراً للرسم
إناء للوشم ودمية
تتنزه في بستان أنوثتها تختار لصبح أخضر
فاكهة من أسرار
سلالة الجمال… قصيدة «سيدة أور» نموذجا
ثم سنجد أن الجمال سيتشكل على شكل سيدة سومرية، فهي شبعاد، أو أياً كانت الأسماء هي سيدة أور التي خبائها الفرات في مائه الملكي، فهو سر الحياة الأوحد، وهي سر كينونته في جماله، فيطلق من بين يديها المعجزات يرسمها في موجه الأبدي حلما يباركه الإله، فأي موسيقى للماء يعزفها الشاعر في الكلمات وعلى جملته في الصورة الشعرية، ليتصاعد هذه الرتم الموسيقي حتى يتشكل على شكل غيوم في أفق القصيدة وهذا ما سنلاحظه في قصيدة الغيمة في شكلها المجازي.
الشكل المجازي للشعر… «قصيدة الغيمة» نموذجا
هل الشعر هو التعبير المجازي للطبيعة؟ وإذا كان كذلك فهل الغيوم هي الشكل المجازي للشعر، فهي رغم أنها واضحة في المعنى، لكنها واسعة الدلالات والإيحاء، فهي تتشكل كشجرة في حلم من ماء، فواصلها بروق وأغصانها مطر، فالشعر كحركة الماء العذب في الكون، الماء الحي الذي تتشكل منه الحياة والذي ينتمي إلى مملكة السماء والأرض:
الغيمة
غيمة تعبر بيتي والشبابيك.. ووجهي
غيمة
تمزج دمعي
بمياه البحر في صحن رماد وتذريني شظايا
حيث تمشي في فضاء الليل أنثى يسبق البرق خطاها
حين دقت بأكف الرعد بابي لم أجدها
وجهها كان سراباً
وبقايا الشعر قِشّة وأنا كنتُ الغريق
لحظة كتابة القصيدة… قصيدة «ملاذ أخير» نموذجا
وفي قصيدة ملاذ أخير سنجد أن الكلمات في راهنها الشعري مستغرقة في فعلها التشكيلي، في الخلق والكشف والتكوين والتجلي وهي تبتكر وتؤسس عبر فيض إبداعي للإلهام الشعري لفعل قادم، يمتزج فيه سحر اللغة بالدهشة وتجعلنا قريبين من لحظة كتابة القصيدة فيقول الشاعر:
ملاذ أخير
– خاتمة.
سأسميكِ البحر إذا جفت أباري وأسميك البر إذا فاجأني الطوفان وأسميك النار بموقد أيامي
إذ تخبو في موقدها النيران وأسميكِ الأشجار
أسميك الأمطار
أسميكِ الذكرى في صحراء النسيان وأسميك النبأ الآتي من سبأ الأشعار
ماهية الشعر
لفهم ماهية الشعر عند الشاعر حاتم الصكر، الذي يعتبره معادلاً له، وهذه الماهية /الفكرة كابتكار المرايا، تعبر عاطفياً عن ذات الشاعر، الذي تسكنه رؤى تلامس روحه، وذات الشعر الذي تظهر فيها هذه الرؤى على شكل كلمات، فكأنه يجتر ذاته شعراً، فلا شيء أكثر إثارة من الموجه الأولى لتوهج الانفعال للحظة الشعرية، وما تبتكره في مصفوفة الشعر في القصيدة، هذه اللحظة التي تجعل الكلمات تعيش حالتها الأيونية، فهي كمن يجلب وميض مشابه لحياة موازية للحياة، حتى لا توقظ الصحو من غفوة الأحلام، وهذه الفكرة تعارض ما قاله الشاعر من أنها ما دونه من قصائد هي جنايات من الزمن الشعري، بل كان الشعر في لحظته، فدهشة الشعر لا تفارقه حتى في كتابات النقدية.