قد يخال للمرء بأنّ من يقرأ رواية “عطر ودماء” (الصادرة عن دار سائر المشرق 2023) للكاتب يوسف طراد يتعرف على شخصيته الحقيقية المجبولة بحبّ الوطن، لكنّ الأمر صحيح أيضاً بالإتجاه المعاكس، فمن يعرف طراد لن يتفاجأ البتة بتماهي شخصية الكاتب مع بطل الرواية وبالتالي هذا الالتصاق الجميل والوفاء البهي الحاصل بين الكاتب ونصه.
في لبنان، نفتقد إلى الرواية التي تمثل فترة الحرب ليس عبر مآسيها أو لنفتح جراحاً دفينة، إنما لمعرفة حقيقة ما كان يدور في الجبهات أو المستشفيات أو في أفكار شخصيات كانت في قلب تلك الصراعات عاشت الخوف والفقدان ثم الرحمة والأمل. فأتت رواية “عطر ودماء” لتخبرنا عن شاب اسمه “يوسف” من شمال لبنان، تخصص في التمريض وانخرط في السلك العسكري في فترة ثمانينات القرن الماضي. مع يوسف، يتنقل القارئ من جبل لبنان، فجبهة سوق الغرب، إلى المستشفى العسكري في بدارو ثم إلى التدريب في المدينة الكشفية ومستوصف البترون وجنوب لبنان وصولا إلى التقاعد من الخدمة الفعلية. والتنقل هنا لا نعني به عبر أحداث الرواية فحسب بل تنقل في محطات عاشها الوطن ولعمري عاشها كلّ إنسان يحبّ وطنه بصدقه. فالتدرج على طريق الوطنية يلزمه الكثير من التضحيات وربما يصيبه المرارة من خيبة الحياة الفانية والمواقف الفاسدة، لكنّ الصمود هو الأساس، سواء بنظافة الكف أو الولاء للجيش أولاً وأخيراً مهما تعددت الأحزاب وعصفت الطائفية رياحها في النفوس. هذه حال يوسف الذي بقي صامداً متمسكاً بالوطنية شعاراً وعيشاً ومسؤولية.
هذا الشاب الذي تدرب في المعسكر متسلماً مهاماً إدارية أتمها على أكمل وجه، كان يعتبر بأنّ لا شيء يستعصي عليه، إلى أن أتت التشكيلات العسكرية بعد تخرجه ليُظهر احترامه لتعددية الجيش عبر تحليه بمناقبية عالية. عرف يوسف صداقات كثيرة من عسكر ومن ضباط مسؤولين عنه، لكنّ عطر “صوفيا” بقي طاغياً على أوراق الرواية. فصوفيا ممرضة مثله تعمل في مستشفى مار يوسف في الدورة. عاشا معاً قصة حبّ لم تكتمل فصولها كأن على الوطن أن يبقى معمداً بالدم على الرغم من الأشياء الجميلة.
مما لا شك فيه، بأنّ أكثر المحطات التي طغت على مجمل أحداث الرواية هي خدمة يوسف في المستشفى العسكري في بيروت، وذلك لما من تجذر هذه الخدمة في صلب مهامه التمريضية واحترافه لها ويظهر هذا
2 / 2
الاحتراف في الكثير من القصص خصوصاً القصة المؤثرة عن جثة عسكري ظنوه ميتاً فوضع في براد المستشفى غير أنّ يوسف استطاع بحدسه وخبرته أن يسعفه من الموت المحتمّ.
من ناحية أخرى، لا يغيب عن القارئ بأنّ حب القرية أو مسقط الرأس هو من حب الوطن، وهذا ما يتجلى بوضوح في الوصف البديع الذي يخطه الكاتب لقريته قائلاً في الصفحة 50 من الكتاب:
“كانت الصنوبرات تلوّح بأغصانها للعواصف، وتراقص الزمن، فتطرب الدهور. حضرت في تلك اللّحظة الذكريات، عندما سمع يوسف حفيفاً مميزاً، صادراً عن ملامسة نسيم الشرق لأغصان هذه الصنوبرات المتعملقة. هنا افترش التّراب، وتسلق الأغصان، وحمله الطيش للفوز بعشّ حسّونٍ، وكانت تجاعيد الجذوع حارساً ابدياً تحميه من زلّة قدم، أو هفوة سقوط…”.
في الرواية، هناك توثيق لتواريخ وأسماء سياسيين وعسكريين وأحزاب أعطت كلّها بعداً واقعياً وأضفت مصداقية على السرد الذي تميّز بالجرأة والانسيابية وخصوصاً بالبُعد الوطني النبيل فحمل النص إلى آفاق رحبة.
“بين ماضٍ أليم وظلّ حاضر مأزوم، أدرك يوسف أن لا ضوء أمل أو جمال حبّ في الدنيا من دون الإنسانية” هذه هي الرسالة التي حملتها تجربته وبرأيي إنها رسالة كل لبناني أصيل على أمل أن نتعلم من المآسي لنتجنب تكرارها. فهنيئاً للبنان بمثل هذا الـ”يوسف” وهنيئاً للقراء بمثل هذه الرواية.