يوسف طراد المصدر: النهار
رسالة جلل، لا يعرف القارئ من أين يبدأ لينصف صاحبها. أمّا الإنصاف بكلّ معانيه، فهو أن يقرأها بكلّ حواسه في كتاب “المَحَبَّة تَبْنِي” الصادر ضمن منشورات دار نعمان للثقافة. كتابٌ كتبه رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك المطران بطرس مراياتي، الخليق بالإرشاد المملوء فلسفةً ولاهوتًا وحكمةً
إثنان وعشرون مقالًا، لكلّ مقالٍ مناسبة لوترجيّة أو ثقافية. أوّلها مقال، هو خطبة في ذِكرى اليوبيل الكهنوتيّ لصاحب الكتاب في حلب بتاريخ ٤ تمّوز ٢٠٢١
وآخرها مقال تُلِيَ خلال خلوة روحيّة في دير سيّدة بزمّار، لبنان، تحت عنوان “وكلاء أسْرارِ الله”
خشع الكاتب للكلمة، وخشع بعمقٍ ليُظهر الأسرار، فكان بوحه بمستوى الإيمان، فأطلّ على السامع والقارئ مرشدًا خلّاقًا، فالكتاب يحتوي على التعليمات التطبيقيّة للإنجيل. وبما أنّ الوعظ غير مستحب في دنيا الأدب، كما أنّه “لا إكراه في الدّين”، فقد ذهب الكاتب إلى تعليل كلّ عِبْرَة في كلّ عِظة كي لا يكون كلامه فعل أمرٍ. وهنا دور المتلقّي، فعليه أن يتدرّج في التطبيق إذا اقتنع بمعنى العِظة. لكن ما من سامعٍ أو قارئٍ لأيّ نصٍّ من نصوص الكتاب إلّا ورسخ عنده اقتناع تام بماهيّة النصّ، لأنّ المطران بطرس مراياتي أغنى جميع النصوص بآيات عديدة، وشرح علاقتها بموضوع كلّ نصّ، ما جعل القارئ أو السامع يستنبط الأفكار التي غالبًا ما تكون مطابقة لبوح الواعظ قبل بوحه بها، فيكون مشاركًا في الوعظ وليس متلقفًا. فيتخيّل نفسه في عرس الألوهة حتى ولو كانت الوعظة بمناسبة جنائزيّة
يضعنا مراياتي في سلام داخليّ، فحاجتنا إلى هذا السلام هي كحاجة الأرض اليباب إلى الماء. فقد رسّخ هذا السلام من خلال تعبيره الحيّ الذي يتلاقى مع توق كلّ إنسان إلى الإيمان غير المرتهن للتقليد: “فليس الله قدرةً وعزّةً وحسب، بل هو محبّة” ( صفحة١٣ ). من نحن في دنيا الحقد إذا كان الله محبّة؟ فجميع مبادئ الرفعة الإيمانية اجتمعت في المحبّة التي التمسنا جوهرها ووهج صفائها في هذا النص الذي عُنْوِن الكتاب بعنوانه: “المحبّة تبني”
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه
- د. حسن مدن يكتب: الانطباع الأول
- ماذا يقرأ محمد صلاح ؟
- – هنري زغيب يكتب – فيروز المواهب الخمس
ويؤكّد الكاتب، أنّ حبّ الفقير واليتيم والبائس والمريض هو حبٌّ لله: “إذا قلنا إنّ للمحبّة بُعدًا عموديًا وآخر أفقيًا نؤكّد الآن أنّ هذَين البعدَين لا ينفصلان” (صفحة ٣٧). فها هنا على هذا الكوكب الأزرق تلتقي عموديّة الطريق إلى السماء مع أفقيّة الإنسانيّة
كما وصف “الرّجاء في زمن الوباء”، بوصفه الحبّ الكبير، والمستمرّ إلى ما لا نهاية والذي منحنا إياه السيّد المسيح: “فهو الذي حمل إكليل شوكنا، ولا يزال يحمل إكليل مرضنا!” (صفحة ٤٧)، فإذا تقبّلنا هذا الحبّ بقلب صافٍ نستطيع أن نهديه إلى الجميع فيكون شفاءً للروح قبل الجسد
نجد المحبّة، وقد سيطرت على جميع نصوص الكتاب بسلاح التضحية. فإذا كان الحبّ اصطفاء الجوهر الإنساني، ومدى الروح في مراقي الحلم بالخلاص، فلا يلج بابه إلّا المتعالون عن نوازع الجسد الماديّ جاعلين العطاء هدفًا. فالحبّ من دون عطاء كزهر شجر الزيزفون الّذي لا يأتي بثمار: “فليس الحبّ في طول الأيام، وإنّما الحبّ في غزارة العطاء” (صفحة ٧٣)
الإيمان المقرون بالمحبّة ليس بضاعة تُعرض على نواصي الحياة، لتسرّ بها الأعين، والشهوات، بل إنّه مفتاح النظر إلى نور الخالق في خلقه. وهو صون الكلمة العاقلة التي تندفع من داخل النفس الأبيّة وإلى الخارج تطفح. فالمعرفة شيء وإيمان القلب شيء آخر: “إنّ الإيمان ليس وشمًا أو ختمًا، بل هو روح وحياة” (صفحة ١٨٩)
في أماكن عديدة من الكتاب، وضعنا الكاتب في أصل وحقيقة مناسبات دينيّة كثيرة كعيد القربان المقدّس الذي ورد الكلام عنه خلال مقال “الطّائر الجريح…” في الصفحة ١٠٨. وفي الصفحة ٣٤١ فسّر بطريقة لا تدعو إلى الريبة سرّ مسحة المرضى، وتغيير اسم هذا السرّ من المسحة الأخيرة إلى مسحة المرضى، وقد أرفق التعليل بنادرة جميلة حصلت مع أحد أنسباء الذي تلقّى هذا السرّ. كما دمج خدمة المذبح التي تختصّ بوكلاء الوقف، مع خدمة الذبيحة التي تختصّ بـ”وكلاء أسرار الله” الذين هم الإكليروس وذلك في الصفحة ٣٣٦
إذا كنت تريد أن تعرف أدوات النجارة التي وجد نفسه مراياتي وهو صغير أمامها مع أتراب له، وهي مصفوفة في صندوق جدّه، والتي ربّما صُنع بها مهد المسيح وصليبه وأقول ربّما عليك بقراءة تعدادها الذي ورد في الصفحة ٢٦٤ وهي: “المنشار الكبير ذو الأوتاد، والرابوب، والرندج، والمثقب، والجاكوش، والدقماق، والقدّوم، والمجحاف، والبيكار، والمتر، والزئبيقة، والإزميل، والمطرقة الخشبيّة
بتؤدةٍ نسير في الصفحات، ننهل من حروفها حكمة. فتبقى الروح متيقّظة، لأنّها تصغي إلى صوت الألم يعانق القلم. فالمطران بطرس مراياتي مارس الوعظ على المنابر وفي المناسبات الدينيّة ليس لهواية بل لهداية، تيمنًا بالآية التي وردت في رسالة القدّيس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنيش والتي استشهد بها خلال السرد: “لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ.” (1 كو 9: 16). فالوعظ يمنحنا حلم الطيران إلى السماء، فنصبح أرواحًا في أجساد محلّقة كما تقول الأديبة إخلاص فرنسيس: “الجسد المسكون برغبة الطيران والتحليق نحو ولادة أخرى”
أيّها الواعظ المتأهّب على عتبات الخلاص، امنح المسؤولين الروحيّين من يقينك هداية ومن قلبك النقي صلاة لأجْل اتّحاد الكنائس، لنحتقل مع بعضنا بعضًا بعيد القيامة المجيدة. فانقسام الكنيسة “باب من أبواب الجحيم” الذي لن يقوى عليها