ظل حسام اسيرا لصورته المنعكسة عن ذاته ينفخ في أنانيّته حتى كادت تفيض. شابٌ فارع الطول، متناسق القسمات، يتسم بوسامة، “يتوهّم فيها فتنةً لا تقاوم، ويتأمل ملامحه كأنها تحفة خُلقت ليتفرد بها.. “لا يمرّ بمكانٍ إلا وترك خلفه نظرات إعجابٍ تتبعه كظلّه. تخرّج في قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية قبل ثلاث سنوات، ونشأ في كنف أسرةٍ نافذة؛ أبوه دبلوماسي مخضرم، وأمّه إعلامية شهيرة، عُرفت بحضورها الطاغي على الشاشات. يعمل في وزارة الخارجية، في منصبٍ رفيعٍ ناله بسهولة، مستندًا إلى سلطة أبيه، ومعزّزًا بإتقانه للغاتٍ عدّة وبرامج الحاسوب.
رياضي نشط، عضو بارز في الأندية الراقية؛ يلعب التنس في «الجزيرة»، ويركب الخيل في «نادي الفروسية»، ويجذب من حوله المعجبات كما يجذب الضوء الفرشات الطائرة. صوره تملأ هواتف الفتيات، وضحكاته ترنّ في أروقة الصالات كأنها نغمة شهيرة. غير أن شيئًا ما في داخله كان هشًّا… هشًّا على نحو لا يُرى.
في أحد أركان نادي الجزيرة، اعتاد رؤيتها. فتاةٌ شابة، هادئة الحضور، تجلس بمفردها في المكان ذاته، في الساعة ذاتها، تقرأ بنهمٍ لا يشغلها المحيط من حولها.. كانت ملامحها تشي برقيٍّ لا يُدّعى؛ بشرتها بيضاء مشربة بحمرة، وشعرها البني ينسدل بنعومةٍ على كتفيها، وعيناها الواسعتان مشدودتان إلى الكتاب، كأن العالم خارجه لا يعنيها.، لا تلتفتان لصخبٍ ولا لاحد مارٍّ. لم تكن تتزيّن إلا بلون وردى على شفتيها الممتلئتين، وبسكونٍ اعتادته. يأتيها النادل بعصير الليمون دون أن تطلبه، فتشربه بهدوءٍ كمن يكرّر طقسًا مقدّسًا.
كان حسام يجلس حيث يمكنه مراقبتها، يحيط به صخب الصديقات؛ ضحكاتهن، وكلمات الإطراء. ومع ذلك، لم تلتفت نحوه. لم ترمِه بنظرة، لم يلفت انتباهها صوتُه المرتفع، ولا استعراضيةُ حركاته متباهيا بطوله الفارع وجسمه الرياضي. ظن انها تتجاهله، وأعتبر هذا التجاهل كصفعةٍ غير معلنة لكبريائه، تثير بداخله غضبًا لم يعتده. سأل عنها، فقيل له إنها “عبلة”، ابنة الدكتور أحمد الشناوي، طبيب القلب المعروف.
ظنّ أنها تتعالى بنسبها، فقرر إهمالها، لكن غروره المفرط ما لبث أن غلبه. بدأ بمحاولاتٍ ساذجة للفت انتباهها؛ ضحكاتٍ صاخبة، كرة تنسٍ طائشة بجوار طاولتها.. صيحات بكلماتٍ ذات معنى. ولكنها، في كل مرة، بقيت كما هي: صامتة، ساكنة، غارقة في كتابها كأنما لا وجود له من الأساس.
تسلّل الهوس إلى نفسه، وجعل منه أسيرًا لتفسير هذا البرود المستفز. وفي لحظةٍ طغى فيها غروره على صوت العقل، اقترب منها، وقف قبالتها، وقال بنبرةٍ حادة:
— “هل هذا الكتاب أهم من الناس حولك؟”
لم ترفع رأسها، وظلت عيناها تتابع سطور كتابها.
أعاد سؤاله بعدما جلس دون دعوة على مقعدٍ مجاور، ما جعلها تندهش، كرر
بصوتٍ أعلى طارقا على الطاولة:
— “تتجاهلينني؟ ألا تسمعين؟!”
لم تفهم، توترت، رفعت رأسها، اشتعلت عيناها بانفعالٍ غريب، ولوّحت بيديها بحركاتٍ عصبيةٍ لم يفهمها، ثم صرخت بصوتٍ غريب؛ مزيجٍ من الألم والاحتجاج، مشيرةً إلى أذنيها: ما فُسر:
— “أنا لا أسمع… لا أسمع!!!”
تجمّد في مكانه. لم يكن يتوقع أن تكون بهذا الجمال وتلك الهدأة، ثم تحمل صمتًا من نوعٍ آخر. ضحك… ضحكةً عالية، ساخرة، لم يعرف إن كان يوجّهها لها أم لنفسه، أم لذلك الموقف الذي انقلب عليه بفظاعة.
مرّت أيام، ثم أسابيع لم يعد يراها في النادي. توارت كما تتوارى الشمس وراء السحب في يوم شتوي.
سافر في مهمّةٍ رسمية، مبعوثًا من الوزارة إلى مؤتمرٍ دوليٍّ في احدى الدول الأوربية… جلس على المنصّة بثقةٍ، وأمسك بالميكروفون متأهبا لإلقاء كلمة الوزارة،
لكن الكلمات خانته؛ كأنما فرت منه. جفّ فمه، وانعقد لسانه، وراح يتلعثم في أول عبارة، ثم تتابعت الكلمات خارجةً من فمه بلا معنى، وكأنها شظايا أصواتٍ لا تربطها جملة. تكرّرت أخطاؤه، كأنما نسي اللغة التي طالما تباهى بإتقانها. ارتفعت همسات الحاضرين، تسرّبت ضحكاتٌ مكتومة، وبدت القاعة كأنها تبتلعه في بئرٍ من الخجل..
لأول مرة، ذاق طعم العجز.. العجز عن إيصال معنى، عن انتزاع نظرة قبول، عن مجرّد الوقوف بثبات. تذكّر صرخة عبلة، وتذكّر سخريته، وضحكته التي كانت أقسى من الصفعات.
شعر حينها بصفعةٍ أخرى… صفعةٍ بلا يد، بلا صوت، لكن صداها اخترق قلبه، وخلّف داخله شرخًا لن يندمل بسهولة.
