بقلم فاطمة موسى وجى-المغرب
■ تقديم :
تاريخيا وفي بداية ثلاثينيات القرن الماضي، لم تنفصل أو تتميز اضطرابات التوحد عن الاضطرابات العقلية أو الفصام الطفولي، وقد كان ليو كانيير (1943) اول من أطلق تسمية “التوحد الطفولي المبكر” على حالات للتخلف مشابهة للفصام، وكان من أهم سماته اضطراب التواصل اللفظي وغير اللفظي، إضافة إلى الانطواء والانعزال.
حسب منظمة الصحة العالمية ال OMS، يعتبر التوحد مجموعة من الاعتلالات المرتبطة بنمو الدماغ، وقد تظهر سماته في مرحلة الطفولة المبكرة ويتميز ببعض الصعوبات في التفاعل والتواصل الاجتماعي.
وتعرف جمعية علم النفس الأمريكية ال APA التوحد على أنه “نوع من الاضطرابات النمائية التي قد تظهر في سن مبكرة من عمر الطفل، وينتج عن هذه الاضطرابات خلل في الجهاز العصبي يؤثر على وظائف الدماغ وعلى مختلف نواحي النمو، مما يؤدي إلى قصور
في التفاعل الاجتماعي والتواصل اللفظي وغير اللفظي.
كما يرى هاولين Howlin 1998 أن التوحد هو “أحد اضطرابات النمو الارتقائي التي تتميز بقصور أو توقف في نمو الإدراك الحسي واللغة، ونمو القدرة على التواصل والتخاطب والتعلم، والنمو المعرفي والاجتماعي، وتصاحب ذلك نزعة انسحابية انطوائية وانغلاق على الذات.
■المعايير التشخيصية للتوحد :
للحديث عن اضطراب التوحد حسب DMS 5 (Diagnostic and Statistical Manual) ، لابد من تواجد مجموعة من المعايير:
●اختلالات مستمرة على صعيد التواصل والتفاعل الاجتماعي لا تبرر بتأخر في النمو العام وتتجلى في :
-عدم القدرة على التبادل الاجتماعي أو الوجداني؛
-ضعف السلوكيات التواصلية غير اللفظية؛
-صعوبة خلق علاقات مع الأقران أو الحفاظ عليها؛
●أنماط من السلوكيات والأنشطة والاهتمامات الحصرية والتكرارية، التي تتميز بخاصيتين على الأقل من الخصائص الآتية :
-نمطية في الحركات والكلام واستعمال الأشياء؛
-الروتينية المفرطة ومقاومة التغيير؛
-انحصار الاهتمامات وميلها إلى التثبيت؛
-إفراط أو نقص في الاستجابة للمثيرات الحسية؛
●تسجل هذه الأعراض منذ الطفولة الصغرى؛
●تؤدي هذه الأعراض مجتمعة إلى الحد والإخلال بالنشاط اليومي.
■ التعلم في اضطراب طيف التوحد :
لعل اهم سمتين في اضطراب طيف التوحد هما “صعوبة التواصل والتفاعل مع الآخرين” و”الانخراط في السلوكيات والأنشطة النمطية”، لهذا يتم تصنيفهما من الملامح الرئيسية لتشخيص التوحد. الأطفال المصابون بطيف التوحيد هم أقل ميلا إلى ملاحظة الآخرين وتقليدهم، أو اللعب مع أقرانهم والانخراط في تفاعلات اجتماعية. هذه الاختلافات بينهم وبين الأطفال الأسوياء عادة ما تظهر بشكل مبكر، في السنوات الثلاث الأولى، وتختلف تمظهراتها من حالة لأخرى، كما يتم التعبير عنها في صعوبة تقبل التغيير، والنمطية أو الروتينية في بعض السلوكيات كالأكل
واللعب والحركات، كرفرفة اليد والقفز مثلا.
تأثير اضطراب طيف التوحد لا يطال جميع حالات التعلم، وهذا راجع لكونه مشكلة تعلم عامة، وليس إعاقة في التعلم، لهذا يمكن إدراج طيف التوحد ضمن اضطرابات التعلم. فالأطفال المصابون بالتوحد يمتلكون العديد من المهارات، وقد تكون قدراتهم على التعلم عالية، حيث أن انعزالهم وعدم تواصلهم مع الآخرين يتيح لهم تعلم أشياء أخرى مثيرة لاهتمامهم، كتركيب الأشياء في لعبة ال puzzle أو تشغيل أجهزة إلكترونية ذكية، ويبقى اهتمامهم بذلك شرطا لتحقيق ذلك.
إلا أن اضطراب طيف التوحد يحد من التعلم الاجتماعي، وبالتالي التعلم من أفعال الآخرين، أو من بيئتهم، فمثلا الطفل شديد الحساسية من الضوضاء سيتجنب اللعب في الفضاءات المزدحمة، ولن يستطيع التواجد وسط مجموعات، وبالتالي ستقل فرصه في التعلم. هذا بالإضافة إلى عدم قدرة أطفال التوحد على الانتباه للأشخاص المتعاملين معهم، الشيء الذي يحرمهم من إمكانية التعلم وبالتالي من تنمية اي معجم تواصلي. في المقابل، إذا كان الطفل يميل إلى أنشطة حسية ولا يهتم لما يفعله الأطفال الآخرون، ستقل إمكانية تفاعله وتعلمه الاجتماعي.
لا ننسى أيضا أن أطفال طيف التوحد لا يوجهون أي انتباه نحو من يقوم برعايتهم أو تعليمهم، لأنهم ببساطة يعانون من ضعف الاتصال بالعين وتعابير الوجه والألفاظ وحركات الجسم أيضا، الشيء الذي يؤدي إلى عدم التقاط أية إشارة أو نظرة أو حدث مهم من الآخرين. كمثال على ذلك، عندما يشير شخص بالغ إلى “كوب” ويقول “هذا كوب” قد لا ينتبه المصاب بالتوحد للشيء المشار إليه، ويفشل بذلك في ربط الكلمة “كوب” بالشيء أي “الكوب الحقيقي”. هذه الصعوبة في متابعة توجيه الآخرين أو توجيه النظر ستسبب فيما بعد صعوبات في تعلم اللغة.
اضطراب طيف التوحد يقف أيضا كحاجز أمام تطور ونمو السيرورات التي تسهل التنسيق الانفعالي والحركي خلال التفاعلات المبكرة للطفل، كالتقليد والمحاكاة، وتكون النتيجة بذلك نقصا شديدا في التفاعلات الاجتماعية وصعوبة في الاندماج وسط الجماعة.
من جهة أخرى تظل النمطية في السلوكيات لدى أطفال طيف التوحد عائقا أمام تعلم مهارات جديدة، أو خوض تجارب جديدة، غير انها تمكنهم من تعلم الكثير داخل دائرة اهتماماتهم، تصل أحيانا إلى حد المهارة والإتقان.
■ هل لأطفال التوحد مشاكل على مستوى الدماغ؟؟
دماغ الطفل يفضل كل ما هو جديد، كما أنه يفضل المثيرات التي تصدر عن كائن إنساني أكثر من تلك الصادرة عن جماد. الطفل ايضا يفضل التقليد والمحاكاة لأنه مزود ب “خلايا مرآة”، يفضل أيضا المثيرات التي تمزج بين اللفظي وغير اللفظي. قصور التفاعلات المبكرة للطفل المتوحد، كالتقليد وتبادل الانفعالات، وعدم الانخراط في التفاعلات الاجتماعية يحيل إلى مشاكل على مستوى الدماغ، تتمثل في نقص في تنظيم القشرة الدماغية، الشيء الذي يضعف من قيمة التنسيق بين مختلف مناطق الدماغ.
مطواعية هذا الأخير تؤكد أنه كلما شغلنا الدماغ، كلما ساهم ذلك في تطوير بنيته ووظيفته، لكن ضعف الاشتغال المعرفي وعدم خوض تجارب جديدة يعطل الأسس العصبية، مما يخلف انعكاسات ومشاكل على مستوى المخيخ، الخلايا المرآة التي تحفز التقليد، وكذا جودة الاشتباكات العصبية المسؤولة عن التنسيق بين مختلف مناطق الدماغ.
■ خاتمة
بعد الحديث عن معايير تشخيص وخصائص اضطراب طيف التوحد، والصعوبات التي يعاني منها الأطفال المصابون به، تجدر الإشارة إلى أهمية التدخل المبكر، ببرامج تعليمية متخصصة تساعد على الحد من اضطرابات التوحد ومواكبة الأطفال المصابين في جميع مراحل النمو والتعلم. هذه البرامج تختلف باختلاف درجة شدة الاضطرابات، كما تراعي حاجات المصابين السيكولوجية والتربوية، وكمثال على برامج التدخل المبكر، يمكن ذكر برنامج TEACCH وبرنامج ABA إضافة إلى برنامج DENVER.