بالمصري اليوم..تكتب د. أماني فؤاد
دائمًا ما كنت أشعر، وأنا أستمع لأحاديث د. صلاح فضل، أنه يمتلك القدرة على عيش الحياة بأكثر من صورة ونهْج، بمستويات شتَّى، لا تقف أمامه المعوقات، ينبذ التردد سريعًا، قوي الإرادة، لديه قدرة فائقة على التكيف، يتسع في ذاته ليتمكن من استيعابها، دون صراع يعترك بداخله، عايَش منذ صغره تراكبيَّة الحياة، تعقُّدها الاجتماعي والنفسي والديني والسياسي، لكنه تعامَل معها ببساطة، بأريحية مرور الأشياء، والاستفادة من كل ما يتاح بها، خاصة حين لم يكن بمقدوره أن يغيِّر في الأمر شيئًا، فهو الطفل اليتيم الذي فقَد أباه في سن صغيرة، وعاش في بيت جده وأعمامه.
في كتابه “أساليب الشعرية العربية”، تطلع د. صلاح فضل لتسجيل إضافة النقد العربي بتقديم رؤية لمجمل الشعر العربي الحديث، رؤية تقوم على ربط “درجة الشعرية” بعدد محدد من المقولات المرنة، بحيث تشكل شبكة مكونة من مجموعة تحالفات تربط درجة الإيقاع بدرجة النحويّة والانحراف في تصاعدهما الحسي، كما تصل مستوى الكثافة في النص بدرجة تشتته وتماسكه أو تجريديّته، وهو ما يسمح بوضع مختلف التجارب الشعرية على سلم نقدي قابل للقياس الوظيفي، هذا مع الحفاظ على المسافة الحيوية اللازمة بين المنهج والنص الشعري. ووزع هذا التطبيق الأساليب الشعرية على مدارين، أحدهما الأساليب التعبيرية المتعددة، حسية وحيوية ودرامية ورؤيوية، والثاني الأساليب التجريدية.
وفي جُلِّ كُتبه التي وصلت تقريبًا لخمسين كتابًا، تبدَّت لدى د. فضل منهجية علمية مرِنة، تذوُّق خاص للشِّعر وكل الأنواع الأدبية، حيث الاستناد إلى معارف علمية نقدية وفنية وتاريخية واسعة، وتيارات نقدية وأدبية متنوعة الاتجاهات والأصول الفكرية الفلسفية، والاعتماد على نظرات خاصة في قراءته للأساطير والموروثات والنصوص، يُجري مقارناتٍ علميةً ممنهَجة بين منتَج التيارات الأدبية والشعرية، وبينهم ومنتَج الشعراء، مع الاحتفاظ لكل شاعر بتفرُّده ومناحي تميزه، يتَّكئ على معرفة التراث العربي بصورة متبحرة، وذائقة اكتسبت وعايشت وهضمت الموروث الغربي والطبيعة الخاصة للحضارة الغربية، صلاح فضل الناقد الذي قرأ وناقَش ودرَس وعاش وشارَك في قلْب المشهد الثقافي الغربي، واشتبك معه ما يربو على خمسة عشر عامًا. امتلك أدواتِه النقديةَ والمعرفية، وأجاد اللغة الإسبانية، التي كان يُترجم إليها سريعًا كل المنتج الثقافي والنقدي والأدبي الأوربي، كما نمَّى ذائقة مدرَّبة راقية متنوعة المصادر، ومنظومة معرفية استعانت بالعلوم الإنسانية واللغوية الحديثة، وهو ما جعله يتصدَّى لنقْل وإثراء المشهد النقدي المصري والعربي بمجموعة مؤلَّفاته، التي نقلت وعرَّفت بأحدث التيارات والمناهج النقدية في أوروبا وأمريكا، ركزت اختياراته وتساوَقت مع نقْل الجديد في الدراسات النقدية الحديثة الواقعية والبنيوية واللسانية والتفكيكية والسيميولوجية وعِلم النَّص، وهو ما أسهم في تحريك المشهد النقدي المصري والعربي، مع جهود ثلة من الباحثين الآخَرين الجادين في سبعينيات القرن العشرين بمصر والوطن العربي.
فلقد أدرك بحِسِّه الغيور على التراث والحضارة العربية أن النقد المحدَث بهذه الطريقة يسهم فى إضاءة التراث، وكشْف أسراره، بقدْر ما يعمد إلى تشخيص التميُّز الإبداعي قديمًا وحديثًا، ليُصبح رسالة معرفة وطريقة حياة منذورة للفكر والثقافة.
هذا المخزون المعرفي والنقدي والأدبي جعَل لدكتور فضل القدرة على متابعة المنتَج الإبداعي للمبدعين المصريين والعرب لسنوات طويلة، كانت فيها دراسته عن أحد المبدعين نقطةَ انطلاق وتعارُف جديد مع المتلقي للإبداع العربي في كل دُوله، ولقد أُتيح له هذا بما تمتع به د. صلاح فضل من القدرة على التواصل، وتهيئة علاقات ثقافية نقدية وإبداعية جيدة، علاقات إنسانية معطاءة ومشاركة، ظَل فيها الطرَف المحرِّض على الإبداع المتنوِّع، مشجِّعًا كل موهبة حقيقية، تمتلك تميُّزًا على الإضافة للمدوَّنة الإبداعية العربية من حيث طرْح الموضوعات المسكوت عنها، أو البوح السردي الحُر عن الحيوات الغامضة للأفراد المؤثِّرين أو الشعوب والعرقيات، أو التجريب في التقنيات الكتابية المستحدَثة. كما أسهم في إعداد وتجهيز وإخراج مجلة فصول النقدية الإبداعية، وهي التي صنعت حراكًا نقديًّا مؤثِّرًا ومحكمًا أول الثمانينيات، وكانت منبرًا لكل صوت نقدي عربي ومصري يؤمن بالتحديث والتطور.
وتمكَّن د. صلاح فضل من المصطلَح النقدي، وترجَم بعضه ترجمة خاصة، وصَكَّ بعضه الآخَر في الدراسات النقدية العربية، وتبحَّر في كل التيارات النقدية بكل أصولها الفلسفية وأفكارها، فامتلاك المصطلَح يمكِّن الناقد من تطويع أبحاثه، والوصول بها إلى نتائج يمكن أن يتراكم فوقها من الدارسين المتأخِّرين، من الطلاب الذين تلقَّوا العِلم على يديه، والذين كانوا بالآلاف على مَرِّ رحلة طويلة وثرية من حياته.
في بعض مؤلَّفات د. فضل في الأدب المقارن، تبرُز السمات الخاصة بكل حضارة، وماذا أضافت للموروث البَشري، وكيف تكامَلت الحضارات وأثَّرت إحداها في الأخرى، لخلْق منتَج أدبي فارق، كما في كتابه المهم “تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي” 1980م. كما ترجم عددًا من المسرحيات المميَّزة عن الإسبانية، وتحوَّلت إلى عُروض مسرحية، عُرضت على المسرح القومي.
ويتبدَّى الغِنى المعرفي في حكْي د. فضل في فصول كتابه “عين النقد”، وهو حوْل سِيرته العِلمية، حين يسترسل ليقصَّ على قارئه بداياته، وكيف عايش هذه التحولات المعرفية، التي جاء بعضُها قدريًّا، والآخَر نتاج بحْثه الدائم عن التميز.
فطِن سريعًا د. فضل، من خلال مواد القانون، وعوالم الأدب والفنون الأخرى، للنقص في طبيعة الدراسة في الأزهر، وتجاوَز هذا الأفق الضيق على مراحل متعددة، عميقة التأثير والتنوع، اجتاز دراسته في كلية دار العلوم، وتُوِّجت ببعثته إلى إسبانيا، ثم عمله بالتدريس في الجامعة هناك، وتولِّيه للمناصب الثقافية في المكسيك وإسبانيا.
من سمات لغة مؤلَّفات د. فضل هذا الكَم الثريُّ من المفردات الجزْلة، التي يطوِّعها بإجادة، فتنسَاب من قلمه، تصِف بدِقَّة المعنى الذي يريد التعبير عنه، بكل دقائقه وفروقاته، واصفًا ومجسِّدًا لبعض الأمور البينية، التي يصعب الإحاطة بها إلا لمَن يمتلك هذا الغِنَى اللغوي، والتبحر الواسع باللغة العربية، وكيفية استخراج الجمال منها، ولقد استخدم د. فضل لغة تتوسَّل بالحواس الإنسانية تجسيدًا وتصويرًا، وكان يرى أن هذه اللغة أكثر وصولًا للقارئ، أقرب إلى وعْيه وطريقة تلقِّيه للعالَم، أشد التصاقًا بالإنسان من اللغة أو المفردات أو التراكيب، التي تعتمد على اللغة، التي تنقل المعاني الذهنية المجردة، ولعل القارئ لمقالات صلاح فضل وبعض دراساته يستشعر بعض التراكيب والتكوينات اللغوية، التي يقف أمامها ليستبطن من أين تأتي مكامن جمالها وقوة تأثيرها.
عشق صلاح فضل اللغة العربية، إيقاع أصواتها، موسيقى شِعرها وتراكيبها، حين كان يتحدث بها؛ تشعر أن هناك معزوفةً تنساب من صوته، مفتونة بالمفردات والتراكيب، التي يتحدث بها باقتدار، وأحسب أنه لعِشقه لطه حسين، عقلًا وتاريخ حياة، وعطاءاتٍ، تمثَّله في لغته وتفرُّده في طريقة الحديث بها، ولذا صنَع لنفسه هو الآخَر طريقة مميَّزة للتحدُّث بالعربية، صنَع طريقة وأسلوبًا، ولم يكن مقلِّدًا.
هذه اللغة التي خاض من أجْلها آخِر معاركه الفاصلة، بعد تولية رئاسة المجمع اللغوي المصري، أراد تحديثها، وضَخ الدماء الجديدة فيها، استهدف أن يضم للمجمع أبرز المبدعين وكُتاب العربية، أبرز العلماء والمفكرين، أراد أيضًا أن تعود العربية لازدهارها؛ ولذا توالَت مشاريعه لتبسيط العربية في المراحل الأولى من التعليم، وإدخال الأدب والقراءة الحرة في بروتوكول مع وزارة التربية والتعليم، كما آمن د. فضل أن ابتعاد الأجيال الجديدة عن العربية ليس لِعَيب فيها، بقدْر كونه عيبًا فيمن يقومون على أمرها، وضرورة دفْع دماء العصرنة والتحديث فيها.
آمَن صلاح فضل بالحرية، ودافَع عنها في كل كلمة كَتَبها أو تحدَّث بها، وحين واتته الفرصة ليشارك في وضْع الدستور المصري، ويكون ضمن لجنة صياغته، سواء في عهد الإخوان 2012، أو في 2014 ، انتصر للإنسان وحقوقه، للحداثة والتطور، للفنون وحرية الفكر والإبداع والعِلم. وهو نفس ما قام بمناقشته وصياغته في لجان وثائق الأزهر، التي أتمنَّى أن تخرُج جميعُها للنور.
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي