قصَّة قصيرة موجّهة للناشئة وللكبار على السواء بقلم د. علي حجازي
عاد سامر إلى بيت جدّه حاملاً زهرة بيضاءَ قطفها من أحد الحقول، خلال تلك النزهة الرائعة التي اختارها بعدَ ذلك الغياب القسري عن البلدة، حقولها وبساتينها والجدارات. ولما أبصره الجدّ يحمل الزهرة تلك، صاح بصوتٍ عالٍ
“طلع الوحواح، طلع الوحواح، هييئ بركك يا فلّاح”
وحواح وبرك؟ ما الذي تقصده بالضبط يا جدي؟
هذا المثل تعلّمناه من أجدادنا، ثمّ إن هذه الزهرة التي تحملها إسمُها الوحواح، والبرك رامزٌ لعود الفلاحة
هذه الزهرة اسمها الوحواح؟ أنا أتيتك بها، لاستعلم عن اسمها ووظيفتها في هذا الشهر من فصل الخريف
الوحواح شارة، قل هي رسالة بيضاء مستعجلة ترسلها الأرض إلى الفلاح، معلنةً عن جهوزيّتّها لاستقباله مع بذاره وعوده، وسكّة محراثه
غداً، أصحبك إلى المرح لتشهد عملية البذار والحراثة، غداً
مع الفجر، استيقظ سامر باكراً على صوت جدّه يدعوه إلى النهوض، والتهيّؤ لزيارة الحقل، واعداً إيّاه بالتعرّف إلى مشهدٍ أخّاذ ورائحة نادرة
هيا يا حبيبي، ألم تعدني البارحة بمرافقتي إلى الحقل
نعم يا جدّي، عندي رغبة شديدة في الذهاب معك، غير أنّني أحسُّ حاجةً إلى النوم أكثر
النوم في الصباح كسل، بل هو فأل سيّئ، يجرّ صاحبه إلى الفقر . قم، انهض يا حبيبي، اطرد النعاس
النوم يؤدي إلى الفقر ؟ كيف يكون ذلك؟
المثل واضح أمامك، فلو بقيتُ أنا ماكثاً ، الساعةَ ،في فراشي الدافئ، ستبقى الأرض بوراً، وستظلّ حبوب القمح راقدةً في الكوارة. وفي موسم الحصاد، ماذا نجني نحن؟ لا شيء، وعندها نعضّ أصابعنا ندماً
أرضنا تبقى بوراً؟ ماذا تقصد بهذه العبارة يا جدّي؟ ولم أفهم معنى كلمة الكوارة تلك ؟ اعذرني
كلمة بور تعني بقاء الأرض من دون حراثة. أمّا الكوارة فهي مكان نخزّن فيه القمح والشعير والقطاني. قال ذلك، وأشار إلى خزانة طينيّةٍ منقوشةٍ ، لها فتحتان، عُلويّة وسفليّة. قام الجد يشرح وظيفتهما
سـَرَتْ كلماتُ الجد في كيان سامر مثل قوة دافعة، نهض من الفراش، غسل وجهه، ولبس ثياب عمل أعدّها لذلك، ومشى مع جدّه الذي كان يسوق أمامه ثورين
وصلا إلى المرج، وقبل أن يجمع الجدُّ رقبتي الثورين إلى نيرٍ وظيفته تنسيق المسافةِ، وتوزيع القوة بينهما بوساطة الشرعة المصنوعة من الجلد لهذه الغاية
كانت الحمرةُ المبشّرةُ بطلوع الشمس تجلّل الأفق الشرقيّ، والهواء الخريفيّ المنعـشٌ يداعبُ الوجوه، والرؤية واضحةٌ بانتظار أشعة الشمس البهيّةِ التي لن تتأخر كثيراً
أبصر الجدّ زهرة الوحواح، أَمْسَك يد سامر وتوجها نحوها قائلاً
هذه الأرض مباركة، إنّها شبيهةُ عروسٍ تلوّح لعريسها بباقة الزهر التي تعدّها بعدما تشرب ماء المطر الذي يختمر داخلها، وعند إحساسها بموعد احتضناها الحبوب، تنبتُ هذه الزهرة الجميلة مشيرةً إليَّ وإلى أمثالي من الفلاحين، أنَّ موعد الحراثة قد آن
ومن عريس الأرض يا جدّي؟
المحراث الذي يتعهّد شـقَّ أثلام فيها .انتظر تَـرَ، بل أزيدك
تفضل، بي شوقٌ إلى هذه المعلومات
عند تأخرنا في الحراثة لسبب ما، ترسل إشارتها الأخرى، وهي زهيرات نسميها السّـكوكع أو بخور مريم، متعدّدة ألوانها، منها الأبيض والزهريّ والـزّهري المشرب بالحمرةِ و
رائع هذا البخور، قطفته البارحة. وجمعت شُمَيْلَةً منه
توجّه الجدُّ إلى خرجٍ فيه قمحٌ، وضعه على كتفه، وشرعَ يقبض الحبَّ ويبذره بشكل منتظم. من أول الحقل إلى آخره، ذهاباً وإياباً. مرّاتٍ عديدةٍ إلى أن فرغ الخرج، وانتهت عملية البذار. بعد ذلك تقدّم من الفدّانِ الذي كان يرعى العشب النابت على جانب الحقل، وهذا الجانب نسمّيه “الربعة”، لأنها غالباً ما تكون غير صالحةٍ للزراعة
تفقد السّـكة الحديدية، نظّفها جيّداً بالمسّـاس الذي يسوس به ثوريه، وهو عودٌ طويلٌ يضبطُ بوساطته سـَيْرَ الثّـورين المستقيم. وبعدها أمسك “الكابوسة” التي تؤدّي دور المقود، ورفع عود الفلاحة قليلاً، فارتفعت السكّة، وأمر الثورين بالتّوجهِ إلى الحقل
هناك، ضغط “الكابوسة” إلى أسفل، فانغرزت السكّة في التراب ، وراحتِ الأثلامُ تتشكّلُ خطوطاً مستقيمةً متلاصقة
سار سامر مع جدّه وراء الثورين مغموراً بسرورٍ كبير ، ذا لأنَّ رائحةً زكيَّةً لم يشمَّ مثلها من قبل . انفَتَحَ لها صدره ورئتاه، ولم يتأخر بسؤال جدِّهِ
ما هذا العطر الأخّاذ الذي أشمّه الآن؟ الله! الله ما أجمله
هذا عطر التراب
عطر التراب؟ من رشّـه هنا؟ ومن صنعه؟ وكم قارورة طيب يستلزم تعطير هذا التراب الذي تحرثه الآن ؟
هذا العطر لا يباع في دكاكين العطارين، لأنّ أمهرَ عطَّـاري العالم عاجزون عن صنعه
غريب
وأين الغرابة في ذلك؟ فالتراب شرب الماء الذي اختمر بفعل تحلل المواد العضوية الموجودة في الأرض التي قدّمت شارتها البيضاء، من الوحواح والسكوكع وبخور مريم، فجاءت السكَّة الآن لتحرثها، غارسةً الحبَّاتِ في رحمها
أنت تقول رحم الأرض؟
أجل يا حبيبي، فالأرض أمٌّ تُحْرَثُ الآنَ، ثم تحتضنُ الحبوبَ، وتتعهد عملية ولادتها وتزويدها بالنّـماء حتى ميعاد الحصاد. حصاد الجنى
نعم، يا حبيبي، فمثل هذا العطر النادر لا تجده إلّا هنا، وفي هذا العملية، وفي هذا الميقات المعلوم من شهر تشرين
للمرة الأولى أسمع أنَّ في التّـرابِ عطراً يعجزُ عطَّارو العالمِ عن صُنْعِهِ
ستتعلم أشياءَ كثيرةً منَ الأرضِ يا بنيّ، أَلمْ أقل لك انتظر تَـَر؟ ألم أعدك بمشهدٍ أخّاذٍ ورائحةٍ نادرة؟
رفع سامر كفّيه إلى السماء وقال: سبحان الله
ردّد الجدّ : سبحان الله العليّ العظيم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ، فزهرة نظنّها نابتة عفواً، لا نعرف أنها مرشدتنا إلى أوان الحراثة إلّا بعد تجربة . سبحان الله
قبريخا . جبل عامل- جنوب لبنان د. علي حجازي