بقلم القاصة فاطمة النهام البحرين
في صباح مشمس، توقفت سيارة (منار) أمام البوابة الضخمة لمستشفى السعادة التخصصي. ترجلت منها، ثم خطت إلى المصعد الكهربائي، وما هي إلا لحظات حتى وصلت إلى عيادة الحوامل. جلست في غرفة الانتظار، وأخذت تتحسس بطنها، وقلبها يختلج بأحاسيس الفرح. ها هي تحمل في أحشائها طفلها الأول
مشاعر شتى داعبت قلبها وروحها كنسائم الربيع، تتراقص بين أضلعها كأوراق البساتين. عيناها تنظران للحياة بلون مغاير، فالهواء مختلف، والشمس لها نور آخر، وللسماء ابتسامتها بلورية. لقد تحول ربيع عمرها إلى عالم موسيقي أخاذ، يملأ حياتها بأعذب الألحان. فصغيرها القادم هو سعادتها المقبلة، والأمل الذي يضيء حياتها بألوان البهجة. هو ثمرة ارتباطها بحبها الأزلي. هي تتذكر جيدًا قصة عشقها لزوجها (أحمد)، كانت قصة جميلة تكللت سريعًا بالزواج، لقد أحبت ابتسامته، وحنانه، وعينيه الدافئتين
«منار عبدالله!»، قطع حبل أفكارها صوت الطبيبة، نهضت من مكانها على الفور، وخطت إلى غرفة الكشف رقم (7). وفي قاعة الانتظار رمقتها إحدى النسوة. همست بإذن الحامل الجالسة إلى جوارها: «أترين تلك السيدة التي دخلت للتو إلى غرفة الكشف؟!»، أجابت: «تقصدين تلك الفتاة الجميلة.. يبدو أنها في الشهور الأولى.. ولكن، لماذا تسألين؟!»، هزت السيدة الأولى رأسها وهي تقول بتعجب: «أستغرب لأمرها فعلاً!»، «ولِم؟ ما بها؟!»، «منذ بداية ترددي على هذه العيادة، أي منذ أشهر، وأنا أراها تأتي إلى هنا، ولكنني أتساءل: لماذا لم يكبر بطنها إلى الآن؟»، مطت المرأة الثانية شفتيها وهي تقول: «أمر محير فعلاً!». تأوهت الأولى وهي تضع كفها على بطنها الكبيرة: «يبدو أنه موعدي الأخير! لقد أخبرتني الطبيبة بأنه ربما يتم تحويلي إلى جناح الولادة في وقت قريب»
في غرفة الكشف، تمددت (منار) على السرير، بعد أن كشفت عن بطنها. ابتسمت الطبيبة وهي تقول: «كيف حالك اليوم؟»، أجابت: «أتوق إلى أن أطمئن على صغيري»، فردت الطبيبة «خيرًا إن شاء الله». وضعت الطبيبة المرهم الشفاف على بطن (منار)، وفي ثوانٍ أخذ الجهاز ينزلق هنا وهناك، وهي تتأمل الشاشة بتمعن
كان قلبها يخفق بعنف، خاطبت نفسها: «ما أجملها من لحظة وأنا أرى صغيري وهو موفور الصحة والعافية، يستشعر أنفاسي، ويسمع صوتي، ويشعر بشوقي إليه»، أشارت الطبيبة إلى الشاشة وهي تقول: «كما ترين، وضعه طبيعي تمامًا، حجم الرأس، وظائف القلب والكبد والكلى سليمة، وكذلك نمو الأطراف»، تأملت (منار) الصورة المتحركة على الشاشة، كان صدرها يعلو ويهبط، «رباه!! كم هو جميل ورائع!»
أقفلت الطبيبة الجهاز، ومسحت بطن (منار) بمنديل ورقي وهي تقول: «وضع الجنين سليم والحمد لله»، نهضت لتعدل ملابسها، وقلبها يرفرف كجناحي عصفور. ارتدت حذاءها، ثم سلمتها الطبيبة بطاقة المواعيد وهي تتأمل عينيها قائلة: «موعدك التالي خلال الشهر القادم، أرجو أن تثبتيه في قسم السجلات»، ابتسمت وهي تقول: «فليكن.. شكرًا لك»، ثم انصرفت من المكان
بعد أن تأكدت الطبيبة من انصرافها، ضغطت على أزرار الهاتف، وخلال ثوانٍ أجابها صوت أنثوي: «شركة أحمد وإخوانه للاستيراد والتصدير.. من المتحدث؟!»، «معك الدكتورة (مريم)، هل يمكنني محادثة مدير الشركة؟»، «بكل سرور». وخلال لحظات أجابها (أحمد) بلهفة: «أهلاً يا دكتورة (مريم).. خيرًا إن شاء الله!»، قالت: «كنت أود أن أخبرك بأن زوجتك قد انصرفت من العيادة منذ قليل»، فسأل: «وماذا حصل؟!»، قالت: «لا جديد.. سايرتها مثل كل مرة تأتي بها إليَّ، كما طلبت مني»، قال: «جيد.. أحسنتِ.. كما تعلمين.. هذه هي الجلسة العلاجية الأولى بحسب تعليمات طبيبها النفسي، سبق وقد تعرضت لصدمة نفسية لفقد طفلنا في شهوره الأولى في ذلك الحادث المؤسف»، فقالت: «فعلاً، إنه أمر مؤسف حقًا يا سيد (أحمد)، ولكن مؤكد بأنها محنة وستتجاوزها بإذن الله»، قال بامتنان: «أشكرك يا دكتورة (مريم).. لن أنسى لك هذا الجميل أبدًا»
في الموقف المقابل للمستشفى، صعدت (منار) إلى سيارتها وأدارت المحرك، غاصت في المقعد، وتنفست بعمق، تأملت الأفق البعيد بسعادة وأمل، ثم حدثت نفسها: «الآن، سأتوجه إلى متجر ملابس الأطفال
لعبة الإيحاء والإيهام السردي في قصة غرفة الكشف رقم ٧ للقاصة النهام
دراسة نقدية بقلم الأستاذ زكريا رضي
أقترح في الدخول إلى الغرفة رقم سبعة أن ندخل من طريقها النفسي القصة مبنية على سيكولوجية الإيحاء والاشتغال على العقل الباطن وتوجيهه وبذلك فنحن حينما نبدأ في تفكيك هذه القصة علينا أن ندخل هذا المدخل النفسي، قد يتسائل البعض من أين ومن أي جهة أو زاوية يمكن أن نتناول هذه القصة
نتحدث في مسار الإيحاء واستخدامه كتكنيك وكفنية يختارها القاص وهي قريبة من ما يسمى بالإيهام عليك أن تجعلني بوصفي قارئا كما يقول أحد الكتاب اجعلني أتبلل، لا تجعلني فقط أستشعر المطر اجعلني أتبلل، هذه المساحة إذا استطاع القاص أن يتقنها فهو في الواقع وضعه قلمه في الموضوع السردي الصحيح. لعبة الإيحاء هذه التي يختارها القاص أحيانا ربما تمثل ثلثي الحبكة لو قسمنا الحبكة إلى ثلاثة أثلاث
دعوني التمس قبل أن أدخل إلى الغرفة سبعة نموذجًا، وغالبًا ما أميل إلى المقارنة، وأعني بذلك الانطلاق من نموذج مقارن، وبناء عليه، يتم الدخول إلى النموذج الموجود أمامنا لدينا الكاتب إتش إتش مونرو Hector Hugh Munro 1870 – 1916 وهو كاتب بريطاني من أصل بورمي، وحاول أن يستخدم تكنيك الإيحاء بطريقة ذكية جدا ، في قصته المعنونة الباب المشرع، وترجمها بعضهم بالنافذة المفتوحة، القصة أساسا مبنية على هذا الإيحاء،أو مبنية على استخدام التأثير النفسي في الشخصية،ومحاولة دفعها لكي تتصرف على نحو ما، يعني أشبه ما تكون بالبرمجة، وفكرتها باختصار تقوم على زيارة من رجل غريب إلى بيت أقربائه، فتسقبله بنت أخيه السيدة (فيرا) وما إن تبدأ في استقباله، حتى تبدأ في اللعب بمكونات عقله الباطن، وبث الرعب والخوف في نفسه من خلال استغلال الفاصل الزمني بين عودة ثلاثة رجال أو بالأحرى رجلان وكلبهم من رحلة صيد، لعل القاريء حتى هذه اللحظة يتساءل وما في ذلك ( رجلان وفتى وكلبهم ) خرجوا في رحلة صيد، ما هناك إلا أن ذكاء هذه السيدة فيرا والقصة كلها تبدأ من رحلة الصيد هذه، رجل غريب هو السيد ( نَاتِلْ) لم يسبق له أن نزل ضيفا على بيت بنت أخيه ( فيرا ) وسيدة أخرى هي سيدة سابلتون سيدة البيت لم يتعرف عليها عن كثب، وهؤلاء الأغراب الذين لم يلتق بهم السيد ناتل سابقًا، استغلت فيرا هذه الثغرة وبدأت تنسج من رحلة حقيقية قصة رعب، مستغلة نافذة مفتوحة تطل على حقلٍ وشجيرات غاب من الخارج، وبدأت في استقبال قريبها، متظاهرة بوجه واجم مترقب، وأوحت إلى سيد نتل بأن حظه التعس قاده إلى المجيء إلى هذا البيت وفي هذا الوقت تحديدا، وأن هذا النافذة المفتوحة تفتح على سر عميق وقديم، وأننا نؤثر أن نبقي هذه النافذة مفتوحة إكراما لرغبة السيدة سابلتون( سيدة البيت ) إذ منذ خرج أقرباؤها مع فتى لهم، وكلبهم ولم يعودوا أبدا، بقيت سيدة البيت منتظرة عودتهم، ومترقبة الفتى الصغير وكلبهم وهو يركض بين الحقول يغني أغنيته المحببة لديه، ولكي تمعن فيرا في صفات أولئك الراحلين قدمت وصفا دقيقا لملامحهم ولثيابهم ولكلبهم، ( آه كم هي مسكينة سيدتي لا تريد أن تقنع نفسها بأنهم قد رحلوا للأبد ولن يعودوا )، للحظات بدأ سيد ناتل بالشعور بأنه في بيت مليء بالعقد النفسية وعليه أن يغادر فورا، ولكن ما إن همّ بالمغادرة حتى شاهد من بعيد ظل رجلين وفتى من بعيد وكلب فيما يبدو قادمون من الحقل، يقتربون شيئا فشيئا، بدأ سيد ناتل يتصبب عرقا، وخوفا ورعبا واضطر للانسحاب فزعا، إلى الدرجة التي لم يلاحظ أن سيارة كانت تجوب الطريق كادت أن تصدمه، كان الفتى فرحا يقفز في الحقل مغنيا أغنيته المحببة
لعلكم لاحظتم الحيلة اللي فعلتها بنت الاخ فيرا أمام الضيف الذي هو قريبها واتبعت طريقة نفسية رهيبة لعبت في نفسية الرجل حتى أو همته أن ما سوف تراه هو حقيقة ، ومع أنه حقيقة بالفعل ، لكنه كان في نسيج السيدة فيرا القصصي أكذوبة مصطنعة، فهي اشتغلت على الفاصل الزمني ما بين خروج هؤلاء المجموعة الثلاثة والكلب وقد أدخلت السيد ناتل في جبّ عميق محاولة إقناعه بأن السيدة سابلتون تعيش وهي تنتظر عودة هؤلاء من سنين طويلة، ولك أن تتخيل ذلك الرعب الذي يداخل الإنسان لو رأى ما أمامه كما لو أنه حدثٌمرّ من سنين وإذا به أمامه مجسّدا كما كان يُحكى إليه في الحكاية، شيءٌ ما جعل سيد ناتل يصاب برعب أفقده حتى الوعي بذاته، حيلة نفسية كهذه كانت من إبداع القاص ومخيلته ومن إبداع تلك الشخصية المتخيلة فيرا التي هي كائن ورقي ليس إلا ,,,, ختمها االقاص بتوصيفه أنها (كانت بارعة في تأليف القصص )
اشتغل تكنيك الإيحاء في هذه القصة إتش إتش تش مونرو، على جهتين اثنتين جهة السرد وجهة الشخصية التي كانت تنفذ ذلك السيناريو ببراعة في الواقع نحنأمام حكاية داخل حكاية تكنيك جميل، وتكنيك قائم على الأيهام، و قائم على الإيحاء النفسي، اللعبة في غرفة رقم سبعة، مقاربة للعبة الإيحاء في قصة الباب المشرع، فللوهة الأولى كان على القاصة فاطمة النهام أن تدخلك في صندوق حكايتها أولا، وتقنعك تمام الاقتناع أن الزوجة هي في انتظار ولادة مولودها البكر، الظروف والحيثيات التي بجوار الحدث كلها عملت على تهيئة هذه الحقيقة وهي أن الزوجة في انتظار مولودها، كقاريء قبلت بالدخول في هذه الغرفة فأنت توهمت أن الولادة آتية بحسب الفحوصات والتطمينات ، ريثما تبدأ في التصديق، كان على القصاصة فاطمة النهام أن تهيء جميع الظروف المحيطة بحيث تجعلك تعتقد أن الزوجة هي في وضعية حملٍ حقيقي، وأن الشهود الذين هم بالجوار، أولئك النسوة الذين في العيادة، يأتين كمراجعين، يعرفن الزوجة عن كثب ويلحظن ترددها على العيادة منذ مدة، ليست باليسيرة، ويستغربن أن بطن السيدة هو على حاله لم يتغير. تأتي مهمة الإيقاظ والاشتغال على الوعي وهي أن الزوج أحمد يجاري زوجته في هذه الوهم الجميل لكي لا يخسرها، ويجعلها تستشعر أنها في حالة حمل حقيقي ( في حين أن لا حمل ولا هم يحزنون ) متطلبات الشعور بالحمل الحقيقي كان يتطلب من الزوج الاتفاق مسبقا مع الطبيبة على هذا الأمر، وأن على الطبيبة أيضا أن تقتنع بلعبة الإيحاء هذه وأن تجاري الزوجة في وهمها الجميل دون أن تعيدها إلى واقعها الصادم بأن لا حمل في الحقيقة، كل ما تحملينه هو وهمك الكاذب أنك حامل
لم تشأ القاصة فاطمة النهام أن توقظ هذه الشخصية من وهمها لأن لو فعلت ذلك لانتهى مسار القصة وانحلت العقدة، وتلاشى الاضطراب، ما اختلفت فيه القاصة فاطمة النهام عن إتش إتش مونرو، هو أن مونورو آثر أن يبقي السيد ناتل على صدمته بحادثة وهمية في حين أنها حقيقة وواقع، وأن يجعل الشخصية تنسحب مرعوبة من هول الموقف، فيما بقيت الآنسة فيرا تبتسم ابتسامة فاقعة ومعتدة بذاتها القادرة على زرع الإيهام في نفوس المحيطين واللعب بأعصابهم وبعقلهم اللاواعي، في حين أن الزوج أحمد في الغرفة السبعة كان محتاجا للإبقاء على هذا الوهم وهذا الإيحاء ، كجزء من بروتوكول العلاج النفسي لزوجته، لا كرغبة منه إلى تدمير الزوجة أو العبث بعقلها الباطن، بل للحفاظ كي لا يخسرها وعليه أن يجاري هذا الوهم الكاذب على أنه حقيقة
على مسار التكنيك السردي أنت أمام لعبة سردية متقنة قائمة على صناعة الشخصية واستبطان ذاتها، وتحليل دواخلها النفسية عبر متن الحكاية، ولست بحاجة إلى كثير من الإغراق قي الوصف، وحشد المفردات بقدر ما أنت بحاجة إلى أن تقنع القاريء بأن يصدقك وأن يقبل شروطك ثم عليك أن تغرقه في كمينك السردي لتوقظه في النهاية. لذلك أتت القصة بسيطة جدا في مفرداتها، قليلة الوصف، لكنها على صعيد الحبكة متينة جدا، وربما هذا هو ما مكنها في التقدم على بقية القصص وتصدر المركز الأول على بقية المنافسات
هنا مسارات سردية محفوفة بالمخاطر إن لم يحسن الكاتب إدارة موقفه وإدارة الحدث كما خطط له، في المقابل هو مسار سردي جميل ومبدع وخلاق إن ضبط الكاتب إيقاعه وأسلم شخصياته للعبته السردية
القاصة فاطمة النهام تفوز قصتها غرفة الكشف رقم (٧)
كعمل مميز في مهرجان همسة الدولي للآداب والفنون الدورة التاسعة – ٢٠٢١ (دورة الفنان صلاح السعدني) بجمهورية مصر العربية
فازت الكاتبة والقاصة البحرينية فاطمة النهام في مسابقة القصة القصيرة على مستوى الوطن العربي (كعمل مميز) عن قصتها (غرفة الكشف رقم ٧) في مسابقات مهرجان همسة الدولي للفنون والاداب – الدورة التاسعة للعام ٢٠٢١م، والذي يعقد كل عام بجمهورية مصر العربية، وسيكون التكريم خلال شهر سبتمبر ٢٠٢١م في القاهرة، تقدمت أ. فاطمة النهام بالشكر الجزيل للاستاذ فتحي الحصري مسئول المهرجان وجميع العاملين على الاعداد والتنظيم وايضا للجنة التحكيم معبرة عن امتنانها وسعادتها بشرف الفوز في هذا المهرجان الكبير واعتبرته انطلاقة مميزة في مسيرتها الادبية