(1). ” لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى .. لم نكن حقا نرى.. !” ……. جوزيه ساراماجو.
(2). في روايته “العمى” يقدم لنا الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو سردية مذهلة. مجتمع بأسره يصاب بفقدان البصر. تبدأ القصة برجل يصاب بعمى من نوع غريب، عمى أبيض، يرى كل شيء أبيض ومشعا، مثل الذي يتطلع الى ضوء قوي فلا يتمكن من الرؤية . ثم سرعان ما ينتشر هذا النوع من العمى في أوساط المجتمع كله فينتقل للجميع إلا امرأة واحدة ظلت مبصرة، ربما لتروى لنا ما يجري من غرائب في بلد العميان.
إثر انتشار الظاهرة ينتاب الناس رعب حقيقي حول مصائرهم فتتراجع المعايير الأخلاقية بشكل مروع خلال فترة وجيزة وتعم الفوضى ، فيتصارعون من أجل البقاء. تتلاشى أحلامهم وطموحاتهم ويغادر المستقبل اهتماماتهم ويصبح القوت اليومي والبحث عن المأكل والمشرب والأمن هو شعلهم الشاغل والوحيد. وكالعادة في هكذا مناخ ، يبرز أصحاب القلوب القاسية وتجار الأزمات وصانعيها، ليفرضوا سلطاتهم على العميان، فكل من لديه مسدس وعصابة اصبح قادرا على التحكم بمصائر الناس فيفرض مايشاء من القوانين ليخضع الجميع لخدمة نزواته ومصالحه الذاتية وغرائزه الحيوانية، وكل من يتجرأ ويخالف القانون يعاقب بحرمانه الطعام. يتفنن أهل السلطة في خلق الأزمات والنزاعات وفي الحرص على نظام ظالم لتوزيع حصص الغذاء خدمة لمأربهم.
(3). وحدها المرأة كانت قادرة على رؤية كل هذا الانهيار في الأخلاق وبروز الانحرفات وتفشي الأمراض وانتشار الجثث والقذورات في كل مكان….. وحدها كانت تتألم وتبكي بحرقة قائلة ” ما أصعب أن يكون المرء مبصرا في مجتمع أعمى…!!”.
(4). الخيارات محدودة وقليلة أمام العميان، هم لا يملكون سوى السمع والخيال . الأثنان يتم التلاعب بهما بالكلمات والوعود والتهديد واستثمار الخوف الذي يسكن الأعماق. فالأعمي لن يرى أبعد مما تستطيع ان تلمسه عصاه.
(5). يشعر الأعمي بالأمان عند كثرة الأصوات فيعشق الحشود والهتافات وينساق نحو أي تجمعات .. فهي فقط تمنحه الأمان.
(6). العميان يخافون ويحسدون ويحتاجون المبصرين. أما “المبصر” فأمامه خياران لا ثالث لهما … أما ان تقوده غرائزه الى استغلال الموقف للتنفيس عن عقده ونزواته مخادعا نفسه بأنه ادرى بمصالح العميان منهم … أو أن يحس حقا بالأمهم ويتعاطف معهم ويبذل قصارى جهده لخدمتهم.
(7). بالطبع الرواية لا تتحدث عن العمى الذي يصيب العيون وانما عن ذاك الذي يصيب النفوس والقلوب والعقول. أي انها تتحدث عن “الجهل” والفقر الفكري وعن سهولة انتشارهما عندما يجدا الخصوبة في الأرض والمناخ الملائم….. فالجهل هو الذي يحول الناس الى مخلوقات حانقة مذعورة عاجزة عن الادراك تتبع احط غرائزها لتقع في سلسة من المأزق لا يستفيد منها سوى المجرمون. الجهل هو الذي يجعلهم ينقادون وراء رجل أعمي مثلهم لأنه يمثل سلطة أو لأنه يغريهم بلسانه العذب أولتحريضه المستمر لهم. …وما أتعس البلدان والمجتمعات التي تقع في فخ الجهل فيحكمها العميان….!!.. فالناس لو كانوا مبصرين لما انتهوا الى هذا الجحيم.
رغم قتامة المشهد .. فهناك دائما الأمل والخير ولحظات الانبعاث… هناك النور الذي يشع من القلوب التي تسكنها الرحمة. فيتحد أهل الخير … ويتفكك محور الشر .. ويعود البصر من جديد… يحترق السفاحين العميان في نهاية الرواية بينما الطبيب وزوجته والمجموعة الصغيرة الذين قاموا بتنظيم أنفسهم هم من يسترد بصره.
(9). العيون ليست سوى عدسات ، أما العقل فهو الذي يرى … !!!
__________
ساراماغو في سطور :
– ولد في البرتغال في 16 نوفمبر/تشرين الثّاني 1922.
– لفقر أسرته انقطع عن الدراسة ولم ينل تعليما جامعيا.
– تَدرّبَ لِكي يَكُونَ ميكانيكيا في الثالثة عشر من عمره، أصبحَ لاحقاً موظفاً حكومياً.
– أصدر روايته الأولى “أرض الخطيئة” عام 1947 وتوقف عن الكتابة ما يقرب العشرين عاما ليصدر عام 1966 ديوانه الشعري الأول قصائد محتملة.
– هاجر بلاده محتجا على تدخل الكنيسة لمنعه جائزة عن كتابه ” الإنجيل كما يرويه المسيح”.
– حصل على جائزة نادي القلم الدولي عام 1982 وعلى جائزة كامويس البرتغالية عام 1995 .
– مَنحَ جائزة نوبل للأدب في عام1998.
– اشتهر بمواقفه التقدمية و دعمه لقضايا الشعوب المكافحة من اجل الحرية.
– نشرت له الكتب التالية ( الطبعات الانجليزية):
o قصائد محتملة 1966.
o الطوف الحجري 1986.
o بالتسار و بلموندا 1987.
o عام وفاة ريكاردو رايس 1991.
o الأنجيل كما يرويه المسيح 1993.
o دليل الرسم والخط (رواية) 1994.
o رواية كل الأسماء 1999.
o تاريخ حصار لشبونة 1996
o قصة الجزيرة المجهولة 1999
o رحلة إلى البرتغال 2000.
o الكهف 2002.