لا يمكن لجيل الطفرة ” مواليد “46– 64 ” جيل الاحلام الكبيرة .. ان يتخيل سنوات العمر دون فيروز .. وكأن قدر هذا الجيل يقول هناك في مصر أم كلثوم.. وفي الشمال فيروز .. وبينهما طاف الناعم في دنيا الخيالِ .. يذكر العهد و ماضي الصفحات .. جارة القمر و حبيبة الصيف .. لا تفتأ تعيدنا لصباح الطفولة و أمسيات الصبا الغالي .. وترجع معها ليالي زمان .. ويرجعوا أهالينا .ويرجعوا حبايب زمان يتحكموا فينا ..
كل اغاني فيروز هي اغاني الروح.. ولعلها غنت بدون كلمات أو كلمة واحدة مثل ” ليل ياليل ياليلي .. يا ليل ” .. لعلها همست ” في شئ عم بيصير” أو رتلت صلاة ” زهرة المدائن ” او صاحبت طفلة تغني ” تك تك تك يام سليمان” .. وفي ” ارجعي يا الف ليلة ” غنت فيروز الف أغنية.. اخذت الناي وغنت واطربت : اعطني الناي و غني فالغناء سر الوجود – و انين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود .. وتسأل هل جلست العصر مثلى ؟ بين جفنات العنب والعناقيد تدلت كثريات الذهب .. بل تجعل من الغناء صلاة : اعطنى الناي و غنِي فالغناء خير صلاه – لأن : و أنينُ الناي يبقى بعد ان تفنى الحياه .. ثم إن الغناء ينسي الداء و ينسيك الدواء : اعطنى الناي و غنى و انسا داء و دواء .. وفي النهاية : انما الناس سطورٌ كُتِبت لكن بماء .. لحن يمكن أن يأخذك في لحظة إلى حلم جميل ..رغم النهاية الموجعة التي كتبها جبران خليل جبران ولحنها نجيب حنكش فكانت أشهر واجمل الفيروزيات.. في بكتب اسمك يا حبيبي : كتبت اسمها على الحور العتيق .. وبقى اسمها بعدما رجعت الشتوية وشتت الدني .. وفي : سنرجع يوماً إلى حيينا نستذكر معها أن وجدان طفولتنا و صبانا و شبابنا و شيخوختنا كان فيروزياً رحبانياً .. يا سنين إللي رحتي إرجعيلي – إرجعيلي شي مرة إرجعيلي – وإنسيني ع باب الطفولة – تا أركد بشمس الطرقات – يا سنين إللي رحتي إرجعيلي .. أنا عصفورة الشّمس .. أنا زهرة الحريـّـة – ضوّوا قنديل المحبّة قبل هبوب الرّيح – ضوّوا قنديل المحـبّة على بيوت النّاس – وطلع الضّو .. عالسّـــهل الكبير- وطارت السّما عاجناح العصافير – اتركوني .. اتركوني .. خلّيني طير..
اين ذهبت في الموسيقى العالمية بنت الشلبيه عيونا لوزيه .. و أيام ع البال بتعن و تروح .. دغدغة موسيقية بالقيتار أو القانون أو السكسفون.. موسيقى تناديك باسمك .. وتبتسم لك .. احكيلي حكاية طويلة – احكيلي عن بلدي – عن احلى ليالي المنى .. وفي آخر السهرية خلينا سهار بعد سهار ..حتى ننسى اسامينا
شو تعبوا أهالينا تلاقيها وشو افتكروا فينا اسامينا .. وعن الأم اغاني كثيرة : كانت أمي الحبيبة .. امي اللي نامت ع بكير.. أمي نداء الحنان .. أمي ملاكي واحيانا تقول : انا الام الحزينة.. حنانها خبزنا وبتقول أنا بياعة ودي عيش! كم من العصافير رقصت على صوت فيروز .. ياعصفورة انا لحبيبي وحبيبي الي – يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي – لايعتب حدا ولا يزعل حدا ..
يقول د سعد الله اغا القلعة بأن لغة ومفردات الأخوين رحباني حققت نقلة نوعية على مستوى تشابك وتنوع المعاني ..أذ أفسحت المجال للتعبير عن عواطف معقدة ومواقف متناقضة لتجد مكانها في نصوصهما .. ثم اسبغوا عليها تموج الألحان ليكتمل الإبداع الفيروزي. و ما قاله د القلعة هو ادق وصف للفن الغنائي الفيروزي إنها حالة خاصة اقتربت جدا من اللغة الغنائية في الغرب بل وتفوقت عليها .. ولا اكبر دليل على ذلك ان المغني الفرنسي جان فرنسوا ميكاييل قد أخذ اللحن ومعاني الكلمات لأغنية حبيتك في الصيف حبيتك في الشتي حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي – نطرتك بالصيف – نطرتك بالشتي – وعيونك الصيف وعيوني الشتي- ملقانا يا حبيبي الصيف وخلف الشتي هكذا تعبيرات حرة طليقة تحكي موقف انتظرت فيه فيروز عاصي في المطر ولم يأتي فخرجت هذه التحفة العالمية ..
كما غنت لموزارت جزء من سمفونيته الاربعين ” يا انا يانا انا وياك ” وصارت من فلكور الرحابنة .. لقد قيض الله لهؤلاء الثلاثة فيروز و عاصي و منصور بعضهم البعض لبناء الصرح الفيروزي .. فنٌ مختلف انضم إليه بجدارة الى ابيه وعمه زياد الرحباني فزاده رحابة وجمال .. وكانت مواضيع الأغاني تعكس الحياة وكل العواطف و المواقف.. الغناء للقمر و للبحر و للجبال و للناس .. وعن الفرح بجموع الناس وعلى دير البوسطة و على الوحدة : وحدي منسية بساحة رمادية .. وما حدا نطرني و كل اصحابي كبروا واتغير اللي كان … يشكل الصبا روح خاصة في اغاني فيروز و الحنين إلى الطفولة في نوستالجيا متكررة .. رجعت ليالينا.. بدي ارجع بنت صغيرة .. ليس بنت صغيرة فحسب وانما بنت صغيرة على سطح الجيران… هناك شغف بالعصافير في مواسم العصافير في أغنية وفي امبارح كانت عم بتقول عصفورة لأختها بالسر .. شالك يا سمرا مغزول من لون الزهر المخضر.. و في بكير ببعت لك العصفورة وفي عصفورة الطرقات .. كل الطبيعة جمال في اغاني فيروز تتحول إلى كائنات شاهدة على لقاء أو فراق … أليست الفنون هي التعبير عن فرح الإنسان بالوجود و بالحياة و الحزن لعدم دوام الحال .. من هنا كانت أغاني فيروز متعددة الاتجاهات و المواضيع و كل محب لفنها يجد ما يعكس حالته في لحظة ما .. حتى ” كيفك انت مالا انت ” .. تلك هي حرية الكلمة و حرية النغم .. هذه الحرية هي العنوان في نظم الكلمات التي لا تنضب و لا تتوقف عن التعبير كيفما تشاء معاني مواضيع الأغنية بل وتطويع اللغة والتعابير بشكل جمالي ناعم واحيانا مبهر.. تلك هي الكلمات واللطائف التي ابتدعها الاخوان الرحباني و ترجمها صوت فيروز .. تتجسد مثلا في أغنية مسرحية كلها حركة وحياة :
ويا حلو الْـ عالجسر لاقيتك – دلّني دخلك على بيتك – بكّير ببعتلك العصفورة – تَ تخبّرك قدّيش حبّيتك – ديروا المَيِّة ديروا المَيّْ – خلّي يشرب كلّ الحيّْ – خلّا تشرب كلّ الدني ويعلا الزرع ويحلا الفيّْ – بيتك حدّ العين سياجو .. والزنبق عَ غصونو – عالخيمة اللي فوق دراجو .. غاطط رفّ سنونو – قدّامو قناية .. بالشمس مضوّاية – حكينا حدّا حكاية .. وتشرب قلّك خَيّْونطرتك عَ نبع الغيضا .. بلكي بتلاقيني في بإيدي زهرِة بيضا .. والحبّ مبكّيني – شافوني جيراني.. عالمفرق حيرانة – افتكروني تعبانة .. وقالوا عنّي خْطَيْ – عنّا جارة زرعت حبقة .. شو رح نعمل فيها – ما في عنّا مَيّْ بتبقى .. من عنّا تسقيها – كيف حالك يا جارة .. نوّرتي هالحارة ْ تعَيْ لعنّا زيارة .. ونحكي نحكي شوَيْ .. قصة فيلم كله حياة واقعية في صورة جمال لا نهائي. خصوصية اغاني فيروز في كلمات أغانيها و كأن كل من كتب لها ارتشف رشفة من بحيرة حرية التعبير من الأخوين رحباني إلى سعيد عقل وطلال حيدر وجوزيف حرب وزكي ناصيف وتبعهم زياد رحباني .. ليس في اغاني العرب جميعا من يغني عن شهور السنة كناية عن الفصول تشرين ..نيسان ..و أيلول الذهب ..وكذلك الولع بالألوان و كان الأغاني لوحة رسام يبرز لون للوصول إلى احساس يعبر عن المعنى العميق للكلمات ..في عقد بنفسجي .و المنديل الأصفر..
إن تميز موهبة عاصي و منصور و زياد لا تختلف كثيرا عن موهبة فيروز .. فيروز تغني بتقنيات عالية في استخدام الصوت و جعله موسيقيا .. كذلك كان الرحابنة في موسيقاهم ابتداءً في استيعاب استخدام الفنون الشعبية لاثراء الألحان و التقرب لذائقة الجمهور العربي .. وتطويع الانغام الشرقية وكذلك الإيقاعات اصيلة الشام و البدو الشامي . ومما ميز الرحبانية اعتمادهم على التوزيع الموسيقي
و استخدام البيانو والأبوا و الاوكورديون و العديد من الات الإيقاع.. وكثيرا ما يقال انهما متاثران بالفنون الغربية .. لكن ذاك إضافة لجودة موسيقاهم واكسبتها الدقة و الاتقان .. اضاف المسرح الغنائي أفق أوسع للإبداع و التنوع في الأصوات و الأفكار..
وفي لوحة فيروز الغنائية على الركن البعيد تحف وهابية .. سهار بعد سهار.. خايف اقول اللي في قلبي .. جارة الوادي.. مر بي .. سكن الليل .. تغنت بها من الحان عبد الوهاب.. حاول السنباطي بعد وفاة ام كلثوم التلحين لفيروز .. لكنها لم تكمل مشواراً كان يمكن ان تكمله لو حدث ذلك في حياة ام كلثوم ..