“في كتابه الفلسفي “أسطورة سيزيف ” قرأ ألبير كامو هذه الشخصية الأسطورية، بشكل مختلف، مما قاله عن سيزيف نذكر : ” يجب أن نتخيل سيزيف سعيدا” معلوم أن كامو لم يكن يفصل بين حياته الفكرية وحياته الخاصة، كان يطمح إلى الكتابة في ثلاث دورات : دورة العبث ودورة الثورة ودورة الحب، لكن الموت لم يمهله ليكتب في دورة الحب، في كل دورة فكرية ألف مؤلفا أدبيا ومسرحية ونصا فلسفيا، مثل كتابه “أسطورة سيزيف” الجانب الفلسفي في دورة العبث، ومثلت روايته الغريب الشق الأدبي، ومثلت مسرحيته كاليغولا الجانب المسرحي.
يعود تاريخ أسطورة سيزيف إلى الإغريق القديمة، تحكي الأسطورة أن سيزيف تعرض لعقوبة من طرف زيوس كبير الآلهة، اختلفت القصص حول أسباب غضب زيوس من سيزيف، في بعض النسخ، يُقال إن سيزيف قد أغضبه بسبب تصرفاته الشخصية، كخيانته للآلهة أو محاولته الحصول على السلطة بواسطة الخداع، لهذا سيحكم عليه حكما قاسيا.
نتيجة تصرفاته السلبية والخيانة التي ارتكبها، أسقط زيوس على سيزيف عقوبة أبدية، أرسله إلى الجح . يم ليقوم بمهمة لا تنتهي، عليه أن يدفع حجرا ضخما إلى قمة تلة شديدة الانحدار، وعندما يوصل الحجر إلى القمة، يتدحرج من جديد إلى الأسفل، مما يضطر سيزيف للعودة والبدء من جديد، وهكذا دون نهاية، ما يجعلها عقوبة مؤلمة ومحبطة، ولكن الآلهة كانت تراها عادلة بالمقارنة مع جرمه.
انتبه كامو إلى الأسطورة، تمعن في محتواها، ثم علق على هذه العقوبة التي فرضها زيوس على سيزيف وقال : ” إنها عقوبة سخيفة ” أضاف ايضا :” لماذا حمل الحجرة ورفعها إلى قمة الجبل ليتركها تسقط من جديد؟ ” إن ما يقوم به سيزيف في نظر كامو لا معنى له، لأن نفس العملية ستتكرر إلى الأزل بما أن الصخرة ستسقط كل مرة.
لقد جعل كامو من أسطورة سيزيف مجرد مدخلا للحديث عن الوجود، قارن بين سيزيف والإنسان، وخلص إلى أن هناك تشابها بين ما وقع على سيزيف وما يقع للإنسان فتساءل :” لماذا رفع سيزيف الصخرة ما دام أنه سيتركها تتدحرج من القمة من جديد ؟ّ يرى كامو أن ما يقع لسيزيف وما يقع لنا لا معنى له، ويضيف أن النتيجة في كلتا النهايتين عبثية وسخيفة لهذا سيقول ” إن كل ما يتكون منه وجودنا، يشبه إلى حد كبير هذا الصعود إلى قمة الجبل… كل واحد منا يرفع صخرته إلى أعلى القمة، ولكن في النهاية ما هو الهدف من هذا الشقاء وهذه المعاناة، لا وجود لهدف ما دام الموت ينتظرنا في القمة، وكأننا نعيد أسطورة سيزيف في حياتنا “
كل ما قمنا به طيلة حياتنا سيحذف، كل وجودنا سينتهي نهاية مأساوية.. كل انتصاراتنا كل الفرح الذي عرفناه وسط أسرنا، كل شيء ستدمره الموت، وهكذا سيصل كامو إلى طرح سؤال وجودي شاق : لماذا نعيش بما أننا سنموت ؟
إنه السؤال الذي طرحه في بداية كتابه الفلسفي أسطورة سيزيف، وهو سؤال جوهري حسب كامو، يجب أن يعالج من وجهة فلسفية محضة، لكن وراء هذا السؤال تختفي أسئلة أخرى، ذات بعد مأساوي تثير الشك و الرعب والفزع من قبيل “: لماذا لا ننت . حر بما أننا في النهاية سنموت ؟ّ” إنها أسئلة ورؤية فلسفية لا تبعث على الإحساس بالراحة والطمأنينة، وإنما تعكس الجانب البئيس والتعيس للحياة.
على الرغم من أن كامو نقلنا إلى أجواء الموت والخوف والمأساة، إلا أنه يقول لنا :” علينا أن نتخيل سيزيف سعيدا ” لكن كيف يمكن أن نتخيل هذا، بعد أن أدخلنا كامو في أجواء الموت والتعاسة وجعلنا نشعر بأن الحياة مجرد عبث ؟ كيف يمكن لنا أن نتخيل سيزيف سعيدا، وهو يرفع الصخرة إلى قمة الجبل ثم يتركها تتدحرج إلى الأسفل ليعود مرة أخرى ليرفعها، وهكذا تستمر مأساته إلى الأبد ؟ كيف يمكن أن نعتبر سيزيف سعيدا، ما دام أن قدره عبثي؟ كيف سأكون سعيدا، وحياتي مجرد عبث لا معنى لها ؟ هل توجد السعادة في رفع صخرة الحياة ؟
كنا ننتظر أن ينتهي كامو في كتابه الفلسفي “أسطورة سيزيف” نهاية متشائمة، تدعونا إلى رؤية الجانب المظلم فقط في الحياة، لكنه في نهاية كتابه ينتهي نهاية متفائلة حيث يقول :” علينا أن نتخيل سيزيف سعيدا لماذا ؟ في الحقيقة لا توجد السعادة في الإنجاز، ليس الهدف هو المهم، ليس رفع الصخرة إلى القمة هو المهم، ولكن فعل رفع الصخرة في حد ذاته هو الأهم..” إن حدث إيصال الصخرة إلى القمة ليس هو أساس السعادة، بل إن اللحظة التي يقوم فيها سيزيف برفع الصخرة، وصعود الجبل هي التي تكتسي أهمية في نظر كامو… يقول لنا : ” رغم أن الهدف عبثي، رغم أن الصخرة تسقط وتتدحرج من أعلى القمة، إلا أن في الحدث، أي في فعل حمل الصخرة من جديد تكمن السعادة الحقيقية، لأن الفعل يعبر عن الصراع، وهذا الصراع الذي نخوضه من أجل الوصول إلى القمة هو ما يملأ قلوبنا فرحة وسعادة وفخرا……
يؤكد كامو على أن الهدف لا يهم بقدر ما يهم الفعل، كلما وجد سيزيف متعة فيما يقوم به، وكلما كان على وعي بالجهد الذي يقوم به، سيمنح لحياته معنى دون النظر في طبيعة الهدف… وهكذا يؤكد كامو من خلال أسطورة سيزيف على أن المعني الذي نمنحه لحياتنا هو المهم والأهم.
نحن لا نعيش فقط من أجل هدف.. لانعيش من أجل انجاز الهدف فقط، وإنما نعيش لأننا نجد السعادة داخل هذه الحياة نفسها.. من هنا نخلص إلى أن فلسفة ألبير كاموا، متفائلة وليست سوداوية كما قد نظن، كامو انتهى إلى أن سيزيف كان سعيدا، وهو يمارس قدره العبثي، نحن أيضا يمكن أن ننعم بالسعادة، علينا فقط أن نمنح معنى لحياتنا، عوض التركيز على الهدف، علينا أن نركز أكثر على طريقة إنجاز الفعل، ففي اللحظة التي سنعطي معنى لفعلنا سنجد معنى لحياتنا.. لا نحتاج إلى مصير مبرمج ومخطط لنشعر بالسعادة، رغم أننا نعرف أن الموت هو الفعل الذي يحدث خارج إرادتنا ورغبتنا، إلا أنه لا يلغي كل ما أنجزناه في حياتنا.
من خلال هذا العرض لما تضمنه كتاب “أسطورة سيزيف”، يتبين كيف أن كامو استند على الأسطورة الإغريقية القديمة، ليقدم لنا رؤيته الفلسفية عن الحياة والإنسان، من هنا يمكن أن نعتبر الأساطير اليونانية خزانا مفتوحا على الكثير من الرؤى الفلسفية، إذ استطاع كامو بفضل قراءته لأسطورة سيزيف، أن يقدم رؤيته الفلسفية التي تعرف عادة بفلسفة العبث، التي لم تكن هروبا من الحياة والواقع، بل دعتنا إلى الالتحام معهما، من خلال البحث عن الجدوى أو المعنى، وهو الذي سيمنحنا السعادة، دون النظر في الهدف ذاته هل تحقق أم لم يتحقق، لأن ما يعول عليه في الحياة هو الفعل… لذا علينا أن نفعل من أجل سعادة حياتية….