“أن تقتل طائرًا بريئًا” للكاتبة الأمريكية “نيللي هاربر لي” من أشهر الرّوايات التي حقّقت مبيعات تجاوزت الثلاثين مليون نُسخة وتُرجمت إلى حوالي عشرين لغة، صدرتْ طبعتُها الأولى سنة 1960، ورصَدت تناقضات المُجتمع الأمريكي في ثلاثينيات القرن الماضي، وما كان فيه من تمييز عنصري وعِرْقيّ وشيوع الخرافة وترَدّي التعليم والقِيَم المُجتمعية.. الكاتبة الأردنية “صالحة خليفة” تُقدّمُ قراءةً نقديّة في هذه الرواية إلى قرّاء “الأيّام نيوز>
“أن تقتل طائرًا”.. إبحارٌ في عوالمِ الرّواية
“أن تقتل طائرًا بريئًا أو ساخرًا أو مُحاكيًّا” هذا هو عنوان الرِّواية التي حقّقت مبيعات بأكثر من ثلاثين مليون نسخة حول العالم، للرّوائية الأمريكية “نيللي هاربر لي”
من يقرأ عنوان الرواية يَلمس الصُّورَتيْن المتقابلتيْن فيها، القتل والبراءة، الكبار والصغار، وما بينهما من نبض حياة، وأنَّ هناك جريمةٌ قد تحدثُ أو قد حدثتْ بالفعل، فيجِدُ القارئ نفسَه يُبْحِر في الرواية للبحث عن القتل والبراءة معًا. ورغم الأحداث المُؤلمة، وجُرعة القتل النفسي والجسدي إلاَّ أنّ القارئ قد يجِد نفسَه أمام صُوَر فَكِهَة، وعفْويّة وبساطة. كما أن الحكاية تُرْوَى على لسان طفلة عن أبٍ يبذل قُصارى جهده في تربية وتنشئة طِفليْه تربيةً سليمة، وأن يضع أقْدامهما على المسار الصحيح في هذه الحياة.. وقد زرَع والدهما “أتيكوس” في داخلهما المُثُلَ والقِيَم ونصرة المُستضعفين في الأرض والدفاع عنهم، ونبذ العنصرية
تعيش “سكاوت” وأخوها “جيم” في بلدة قديمة بولاية “ألاباما” الأمريكية، وكان لديْهما صديقٌ مُشترك، هو “ديل”، حيث كانوا ثلاثتهم يلهون صيفًا ويشنُّون حملات مشاكسة من أجل دفْعِ جارهم “بو رادلي”، وهو مُصابٌ بالتَّوحُّد، إلى الخروج من منزله واللّعب معهم. أما والدهما “أتيكوس” فقد كان محاميًّا وقَبِلَ الدفاع عن رجل “أسْوَد” يُدْعى “توم” والمُتّهم بضرب واغتصاب امرأة بيضاء تُدْعى “مييلا أويل”، ورغم الأدلة التي تثبت براءَته من هذا الجُرم إلاَّ أنّ معظم سُكان البلدة اقتنعوا بأنّه مُذنب، وقد بدؤوا في ازدراء “أتيكوس” لالتزامه بالدفاع عن هذا “الأسْوَد” ضد تلك المرأة البيضاء. ولم يقف التّنمُّر هنا، بل تجاوز إلى محاربة الطفلين “سكاوت” و”جيم” في المدرسة، لتصل إليهما الحقيقة المؤلمة أن أهل القرية مُتحامِلون على “توم” ليس لأنه مُذنبٌ حقًّا، وإنما لأنه من الزّنوج ذوي الأصول الإفريقية، مما أحْزن قلبيْهما
وقَف الطّفلان، رغم صِغَرهما، على حقيقة كان من الصعب عليهما استيعابُها وفَهْم كيف يكون الناس بهذا التّوحّش والاستبداد وظُلم الآخر بسبب لون بشرته وانتمائه إلى أصول إفريقيّة. والصدمة الكبيرة التي ألمّتْ بهما عندما وجَدَا أنّ المحكمة، التي يُفترضُ أن تُقيمَ العدل بين النّاس، هي ليست كذلك.. واستمرَّ الظّلم عندما تمَّ إطلاق النار على “توم” وقتْله لمحاولته الهروبَ من السجن، لأنّه رغم تبرئته من طرف قاضي المحكمة فإنّه لم يُفرَج عنه. والمُفارقة أنّ والد الضحيّة البيضاء “مييلا” قام بتهديد المُحامي “أتيكوس” والانتقام منه لأنه تسبّب بإحراجه في قاعة المحكمة، وقد تعرّض إلى الطّفلين بسكِّين ليلةَ الهالوين، فكسر ذراعَ “جيم” وكاد أن يقتل سكاوت
والمفاجأة التي أذْهلتْ الطفلين هو “رادلي” الطّفلُ المُصاب بالتوحّد فقد أنقذهما من يد والد الضحيّة البيضاء. وهنا بدأت “سكاوت” تستكشف عالم “رادلي”، وتتصوَّرُ الحياةَ من منظوره، فقد تصرَّف بنُبْل وأخلاق على عكْس الآخرين من “الأصِحّاء”. أما مَوقف عُمدة المدينة “هيك” فقد كشَفَ عن اختلال العدالة والمساواة بين الناس في مدينته بسبب لون البشرة والأصول التاريخية. وأيْضًا عندما فَرَض على الطفل المُتوّحد “رادلي” أن يبقى سجينًا في بيته بعيدًا عن دائرة الضّوء بسبب موقفه النّبيل.. وهذه المفارقات أو المقارنات جميعُها جسَّدت الصُّورةَ الحقيقيّة للمجتمع في هذه البلدة وما فيها من تناقضات في التّعامل مع النّاس واختلال في العدالة وتمييزها بين إنسان أبيض وآخر أسْوَد
قراءة في العنوان.. على عَتّبات الرّواية
يُعتبر العنوان المفتاحَ الرئيسي الذي يأخذ القارئ إلى بَهْوِ الرواية، ويُحلّق به في عالمها، وفي سماوات تخيّلاتها وإبداعها. فالعنوان يتولّد من النص ويكون آخر لمْسة يضعُها المؤلف لروايته، فهو نَتَاج محصول العملية الإبداعية الخالِقة لنص الرواية
وعلى الرغم من اختلاف الدّلالات والإحالات الرّمزية للعنوان، إلاَّ أنه أعطى المعنى الحقيقي للنص، فهذا الطائر أو العصفور ما هو إلاَّ رمزٌ لأكثرَ من شخصية في الرواية، حيث أن العنوان قد جسّد التّفرقة العنصرية في المجتمع الأمريكي الأبيض ضدّ كل المُختلفين عرقًا وفكرًا ودينًا وجنسًا.. وللرواية ترجمتان باللغة العربية، الأولى للكاتب “توفيق الأسدي” بعنوان “لا تقتل عُصفورا ساخرًا”، ونرى أن استخدام (لا) الناهية في هذا العنوان قد انتفى فيه المعنى الحَرْفي للرّواية بلغتها الأصلية، ولعلّ الكاتب قد اختار إسقاط ظلال النصّ الرّوائي على عنوان ترجمته. أما الترجمة الثانية فهي للكاتبة “داليا الشّيال” بعنوان “أنْ تقتل طائراً بريئًا”، فنجِدُ أن (أن) التّوكيد فيها تأكيدٌ للمعنى الحقيقي للنص، ومُرتبطٌ مع “توم” الذي تمّ اتّهامه بالاغتصاب لكوْنه من الزّنوج، وإبقائه في السّجن رغم تبرئته من طرف المحكمة، ثم قتْله عندما حاوَل الهروب.. كأنما “توم” هو الطائر البريء الذي ليس هناك ما يُبرَر قتْله سوى موروث الحقد والتّمييز العرقي واللّوني
نستطيع القول أنّ “نيللي هاربر لي” وُفِّقت في اختيارها لعنوان روايتها، وسواءٌ كان بـ “لا” الناهية التي اختارها “الأسدي”، أو “أن” التوكيد التي اختارتها “الشيال”، فقد حقّقت الروائيّةُ البعد المُجتمعي للرواية، وأخذت السّمة التّبليغيّة، وبعْث حياة المُجتمع من خلال تفاصيل الأحداث.. وكان العنوان مُؤثرًا بشكل كبير على القارئ، مما دفع به إلى التعاطف مع “توم” المُختلف عن المجتمع الأبيض، ونبذ التفرقة والعنصرية، وتبنِّي فِكْر الكاتبة التي تأثّرت بفكر والدها المحامي الذي دافع عنه وعن المظلومين حتى من المجتمع الأبيض وبذلك تكون “نيللي هاربر لي” قد حققت الغاية من كتابتها للرواية
الدّخول في الرّواية من باب اسْمُه “جيم”
ارتأتْ الكاتبة أن تبدأ روايتَها بحادثة كسْر ذراع الطّفل “جيم”، وهو في الثالثة من عمره، لتصِل بنا إلى فكرة مُهمّة أوْصلتها إلى القارئ بسلاسة من خلال هذا الحدث، وهو تَقبّل الطفل لحالة جسده “الجديدة” وعدم خجله ممّا صار عليه، ما دام قادرًا أن يُمرِّر الكرةَ ويضربها قبل أن تصل إلى الأرض
قد يظن القارئ للوهلة الأولى أنّ ما تعرّض له الطفل “جيم” هو حادثة عابرة لا أهميّة لها، ولا تخدم الرواية، إلاّ أن أقوالَ “جيم” بأن ما حدث له لن يُعيقه ولن يحدّ من ممارسته للُعْبته المفضلة “كرة القدم”، هي تقديمٌ ذكيٌّ لحكمة مُهمّة على لسان طفل في الثالثة من عمره، وفي الوقت نفسه هي بابٌ للدخول إلى القضية التي ستتناولها الكاتبةُ في روايتها. ومفادُ تلك الحكمة أنه يتوجّبُ على الإنسان ألاَّ يخجل مِمَّا يؤمن به، ولن يُعيقه أيّ شيء في السّعْي إلى تحقيق أهدافه وقِيَمه في الحياة
الوقائعُ في زَمنيْن
دارتْ وقائعُ رواية “أن تقتل طائرَا بريئًا” خلال ثلاث سنوات من العام 1933 إلى 1935. حيث قامت “لي” بتقسيم روايتها إلى زمنين. الزمن الأول: تلك المغامرات الطفولية للطفلة “سكاوت” مع أخيها “جيم” وصديقهما الجديد (ديل) الذي جاء من الميسيسبي لقضاء العطلة الصيفية عند عمّته. ويرتكز هذا الزمن على الشّقاوة التي تتسم بالبراءة والطفولة والعفوية وحبّ الاكتشاف لكل ما حولهم، وتضخيم الأشياء والمُبالغة فيها، والتّخيّل لما هو عليه فكر الأطفال، وهذا ما حدث في تعاملهم مع طفل التّوحّد “بو رادلي” المسجون في منزله من طرف عائلته
أما الزمن الثاني: فتدور أحداثه حول محاكمة “توم روبنسون” الزنجي الأسود المُتّهَم باغتصاب فتاة بيضاء تُدعى “ماييلا بيول” في العشرين من عمرها، وقيام المُحامي (أتيكوس) للدّفاع عنه، وما آل إليه مصير “توم”..
“الطائر البريءُ” والأمكنة
نستطيع القولَ أنّ الأمْكِنة هي النّبع الذي يُغذِّي الكاتبَ، ويمدّه بأحداث روايته، هي زادُه في الاستمرار دون توقف عن الكتابة، والتّحليق ما بين خياله وواقع الأمكنة. وقد يسْتعير الكاتبُ بعض شخصيات تلك الأمكنة، ويُضفي عليها الكثير مِمّا يودُّ أن يقوله من خلالهم، وما يحلمُ أن تكون به سمات تلك الشخصيات التي عاشت في تلك الأمكنة
وقد تكون الأمكنة هي مصدر إلهام الكاتب عند البدء بالكتابة، والاستمرار فيها حتى النهاية، وهي المُؤثر الحقيقي والمُحرّك لقلم الكاتب، وهذا ما لمسناه في قلم “لي” فقد أثّر الجنوبُ الأمريكي عليها روائيًا وأدبيًا، حيث نجدها تذكر في روايتها “مونروفيل” وهي بلدة في ولاية “ألاباما”، وكذلك “مايكوم” وهي إحدى قُرى الجنوب الأمريكي حيث عاشت “سكاوت” الصغيرة مع والدها “أتيكوس” وأخيها “جيم” والطبّاخة “كاليورنيا”
وقد حصرت الرّوائيةُ المكانَ والمجتمعَ الجنوبي وملامحه، وفرّقت بين الشمال والجنوب، وأعطت إلى القارئ انطباعات عن الاختلاف في المجتمع الجنوبي، ومعتقدات كل ولاية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.. ونجزمُ أنّها نجحت في تصوير الواقع المُعاش في هذا المجتمع، والبيئة التي عاشت فيها، وقدّمت صُوَره بشكل واضح وحقيقي ومُؤثر
وربما كان من أحد أسباب تميّز هذه الرواية وكاتبتها يكمنُ في تقديم الحقيقة دون مُراوغة، وإسقاط الأقنعة عن هذا المجتمع دون تجميله بمساحيق المبادئ والقيم والأخلاق.. فقد أرادت الكاتبةُ أن تكشف الصُّوَر الحقيقية لهؤلاء الأشخاص أمام أنفسهم أولاًّ دون غيرهم، لذا بقي ألقُ هذه الرواية مستمرًّا إلى يومنا هذا
شخصياتٌ روائيّةٌ من سيرة ذاتية رواية “أن تقتل طائرًا بريئًا” هي السِّيرة الذاتية للكاتبة “نيللي هاربر لي”، ولا بدّ أنها أضْفت على الشخصيات “الحقيقيّة” لروايتها الكثير من الخيال، لاجتذاب القارئ إلى أحْداث عملها الأدبي. ولعلّها ألْبّست تلك الشخصيات الكثير مّمَا كانت تتمنّى أن تكون عليه كل شخصية من قِيَم ونُبْل وأخلاق
– سكاوت: هي الشخصية المحورية في الرِّواية، طفلةٌ ذكية جدًا فطِنَة، تمرُّ بوقت عصيب في المدرسة، نظرًا لأنها أجادت القراءة والكتابة قبل الالتحاق بالمدرسة، وقد قامت الكاتبةُ بإسقاط شخصيّتها وتجاربها عليها وأعطتها دوْر الرّاوي لكل الوقائع التي حدثت في الرواية
– جيم: أخ سكاوت، طفلٌ اتَّسمَ بالهدوء، ولديه مبادئ وتوقّعات كثيرة اتّجاه البشر
– أتيكوس: والد سكاوت وجيم، المحامي الذي كان يؤمن بالعدالة والمساواة بين البيض والزنوج. منذ وفاة زوجته اعْتنى بطفليْه، وحاول غراسة كل ما كان يؤمن به فيهما… اشتهر بحبّه في مساعدة الفقراء والمحتاجين والدفاع عنهم دون مقابل
– ديل: صديق جيم وسكاوت، طفلٌ جاء ليقضي إجازتَه الصيفية عند عمّته، وعاش معهما لحظات الشقاوة والمغامرة. وقد وعد سكاوت على الزواج بها عندما يأتي العمر المناسب، وكان مجهول الهوية من جهة أبيه
– كاليورنيا: مربيّة المنزل والطّاهية والتي كانت تعتني بسكاوت وجيم، وتساند الأب أيتكوس في تربيتهما. وكانت من الزنوج الذين كان المجتمع يتعامل معهم بعنصرية قاسية، وتنمّر شديد. ونجد أن الكاتبة أرادت استخدامَ استعانة الأب أتيكوس بها لتربية طفليْه، من أجل إضفاء الكثير من الرّمزية التي تؤكّدُ على أهميّة تقّبل الآخر المُختلف في العِرْق ولون البشرة، وضرورة مساواته مع غيره وتحقيق العدالة بين جميع أفراد المُجتمع دون اعتبار لأيّ فُروق
– آثر أدلي: شخصٌ منعزل، غامض، نشأتْ علاقة خفيّة بينه وبين جيم وسكاوت، إلاّ أنه كان حاضرًا في أحداث الرواية، من خلال ما يُحاك حوله من روايات وحكايات خيالية مُظلمة وظالمه له، وربما كان هو الطائر البريء. ولم تظهر صورته الحقيقية إلاَّ عندما أنقذ سكاوت وجيم من الموت
نجد أن الكاتبة استعانت بشخصيته كي تصِلَ رسالتُها إلى القارئ، بأنه من الحكمة ألاّ نَضَع تصوّراتنا المُسبقة والمُغالية حول الأشخاص ثم نحْكم عليهم دون معرفة حقيقتهم. كما أن قرار الأهل بعزله بعيدًا عن عيون الناس هو قتْلٌ لشخصه، وكأن الكاتبة تنبّأتْ بما نحن عليه الآن من شعارات تُنادي بقيمة دمج هؤلاء المصابون بالتوحّد وغيرهم من الفئات التي تحتاج إلى دعم المجتمع لهم، فكان على أهله عدم عزله وإعطائه فرصةَ اللّعب مع أقرانه ليندمج ويعيش بشكل طبيعي في المجتمع
توم روبنسون: الزنجي الأسود المُتَّهم ظُلْما بسبب لون بِشْرته وأصله الإفريقي، والذي دافع عنه أتيكوس لإيمانه ببراءته وواجبه في الدفاع عنه. وقد يكون هو أيضًا الطائر البريء
الأطفالُ.. رُسُلُ القِيَم الإنسانية
الحبُّ، العدالة، المساواة، التّسامح، تقبُّل الآخر.. تلك القيم الإنسانية التي حَمَلت شعاراتها روايةُ “أن تقتل طائرًا بريئًا”، قدَّمتْها الكاتبةُ في روايتها بأسلوب بسيط ورائع على لسان الأطفال، ومن خلال مشاعرهم الطفولية البريئة التي لم تتلوّث بعْدُ بموروثات الكبار من حقد وتمييز عنصري وعِرقي.. ربّما هي طريقةُ الكاتبة ليكون الأطفال هم من يُعلّمون القِيَم الإنسانية للكبار
ولم تقف الكاتبةُ عند هذا الجانب، بل حرصت على وضع الصورة المُغايرة لهذه القيم، كي تضع القارئ أمام المُقارنة، فقدَّمتْ صُوَر العنف والاضطهاد والعنصرية والتنمّر بأسلوب مُؤثر يدفعُ بالقارئ إلى تبنِّي قيمها ومبادئها النبيلة، ورفض جميع الصُّوَر التي تنتهك القيمة الإنسانية وتُلغي المساواة والعدالة في المجتمع الواحد
برعتْ الكاتبةُ في تجسيد العلاقة بين البيض والزنوج في الجنوب الأمريكي، عندما عرضت المقارنات دون تعقيد، مُستخدمةً أسلوب السخرية والتّهكم على مجتمعها الذي يفرّق بين الآخر بسبب اللون والعرق والجنس، وفي الوقت نفسه، التعاطف مع ما يحدث في مجتمعها والشفقة على المقهورين فيه، لإدراكها أن هذا سيؤول بالمجتمع إلى الانحدار والسقوط في مزبلة التاريخ
ونجد أن الكاتبة لم تقف عند العلاقة غير المتوازنة بين البيض والزنوج، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، من خلال قصة طفل التّوحّد “أدلي”، بسبب رفض المجتمع له، وعزله عنه من طرف عائلته وحبسه في البيت، وكأنه عار عليهم، والصُّوَر غير الحقيقية التي رُسِمت حوله، وموقفه النبيل من جيم وسكاوت.. كل هذه الصُّوَر، التي قدمتها لنا الكاتبةُ ونجحت في إيصال رسالتها، تنمُّ عن الذكاء الأدبي في الكتابة الروائية وامتلاك الرؤية الاستشرافية انطلاقًا من متناقضات المُجتمع الأمريكي
تستمرُّ “نيللي هاربر لي” في تقديم صُورِها البرّاقة إلى القارىء بأسلوب مُؤثّر ومُبدع. فقد كادتْ أن تجعل من عبقرية “هتلر” أنموذجًا لها، لولا أنها سمعت يومًا مُعلّمتها، التي اتّخذتْها قدوةً لها، تدعو إلى إبعاد أصحاب البشرة السوداء عن البلدة، فهم دون المستوى الاجتماعي والعقلي والثقافي، الذي يسمح لهم بمخالطة البيض الذين هم أسياد الأرض، وهذا يُذكّرنا بقصة “الطيب صالح” في إحدى مجموعاته القصصية، عندما أطْعَم الجدُّ حفيدَه الصغير حبّة التمر وبقيتْ عالقة في فمه حتى لفظها ولم يأكلها، ففهِم عقلُ ذلك الصغير البريء أن حبة التمر وُجِدتْ من عرَق وتعَب الفلاحين الذين استعبدهم جدّه الإقطاعي ومارس عليهم الظّلم والقسوة الشّديدة
آراء ورُؤى مُستقبلية
قدَّمتْ لنا “نيللي هاربر لي” من خلال روايتها، نظرةً مستقبلية للمجتمع الأمريكي بصفة خاصة، وللعالم بصفة عامة.. وذلك على لسان الأطفال والتّعبير من خلالهم عن قضايا كبيرة وهامة، وكأنّنا بها تعلن لنا أن هؤلاء الصغار سيكبرون، وسيكونون هم منارة التّغيير في المجتمع الأمريكي
من خلال مرافعة المحامي “أتيكوس” الذي كان يعلم بخسارته في قضية “توم” ليس لأنه مذنب بل لكونه زنجي أسود وأن القضاء لن ينصفه، دعت الكاتبةُ إلى أهمية صيانة القانون وحمايته من فكر المجتمع، وأن العدل لا يُؤخَذ بالقوة والقتل وإنما بِسَن التشريعات التي تحمي الجميع دون تفرقة، لضمان حقوق الأفراد في المجتمع وحماية القانون نفسه من السقوط والانحدار، فالمحامي لم يكن يدافع عن “توم” فقط، بل كان يدافع عن مجتمعه ويدعوه إلى تبنِّي القيم والمبادئ والعدالة والمساواة
استطاعت الكاتبة إيصال قيمة مُهمّة من خلال قصّة الشّبح الحاقد الذي كان يقوم بجرائم صغيرة رَوّعتْ أهل البلدة مثل التّعرّض إلى الدّجاج والحيوانات المُدلّلة وقتلها وتشويهها.. وتعهّد والد الشّبح بحبسه في البيت بدلًا من سجنه مع أفراد عصابة من أصدقائه قاموا بأعمال منافية للأخلاق، فحُرِم هذا “الشّبح” من التعليم المهني الذي كان يستفيد منه السجناء، بينما نال أصدقاؤه تعليما مهنيًّا جيدًا في السّجن. وهذه مقارنةٌ قدمتها لنا الكاتبة، للتأكيد بأن الظلم في الظاهر يكون أحيانًا للزنوج السود، وفي حقيقة الأمر قد يكون للبيض أيضًا، فالإجرام ليس له أيّ انتماء
أظهرت لنا الكاتبة، من خلال روايتها، الكثير من التغيّرات في المجتمع الأمريكي، مثل التغيّر في التعليم، وتعزيز قدرات الذكاء والمهارات، وظهور نظريات تعليمية تتبنّى تلك التغيّرات، عكس ما حدث مع “سكاوت” التي عُوقبت من طرف مُعلمتها “كارولا”، لأنها تفوقت في القراءة وكأنها قامت بجريمة، فجسّدت لنا الكاتبةُ عقليّةَ المعلم قديمًا في الجنوب الأمريكي
أبرزتْ لنا الكاتبة أهميةَ دور الأهل في بناء شخصية أطفالهم، والتأثير الجيد على شخصياتهم، وهذا ما نجده في علاقة والد “سكاوت” معها ومع أخيها “جيم”، وكيف كان يعلّمها القراءةَ دون الإساءةِ إلى مُعلمتها، وديناميكية الجماعة في التعليم، وفي طريقة تعلُّم والدها وعمها في البيت
أبدعتْ الكاتبة من خلال أسلوبها في الدّعوة إلى التخلّص من وَهْم اسمه الخوف، وتكذيب ما يُشاع، وفي إبراز الحقيقة.. فقد تناولت “سكاوت” عِلْكَةً في بيت “آثر”، ولم يحدث لها شيء، وهذا ينافي تلك الروايات التي قِيلت عنه من قبل أهالي الحي بأن من يتناول في بيته شيئا يموت
الرّوائيّةُ في سُطُور
“نيللي هاربر لي” هي كاتبة وروائية وموسيقيّة وكاتبة سيناريو وشاعرة ومُمثّلة أمريكية، وُلِدت في 28 أفريل سنة 1926 في مونروفيل بولاية أَلاباما، ورحلت عن عالم الناس في 19 فيفري 2016 عن عمر ناهز 89 عامًا. ابتدأتْ حياتها المهنية كاتبةً في جريدة الجامعة بمدينتها، ثم انتقلت إلى العيش في مدينة نيويورك، حيث حصلت على وظيفة في شُبّاك حجز تذاكر الطيران. وكانت تحبُّ لعبة الغولف والموسيقى وعلم الإجرام وتجميع مُذكّرات رجال الدين في القرن التاسع عشر، وكانت تُمارس الكتابةَ في وقت فراغها، حيث انطلقتْ في كتابة عدد من القصص القصيرة. ويُعتَبر عام 1956 هو نقطة التّحوُّل في حياة “نيللي”، حيث تمكّنتْ من الحصول على وظيفة وكيل أعمال، وتمكّنت من أخذ إجازة لمدة سنة كاملة قامت خلالها بكتابة روايتها الخالدة “أن تقتل عصفورًا مُحاكيًا”
كان والدها يعمل مُحرِّرًا في صحيفة، وعمل لفترة في مهنة المحاماة، كما عمل في المجلس التّشريعي لولاية ألاباما في الفترة من عام (1926 – 1938)، وقد تلقت تعليمها الأوّل في بلدتها، وبعد أن أنهت تعليمها الثانوي انتقلت إلى جامعة ألاباما حيث درست القانون لعدة سنوات، ولكنها لم تُكمِل مسيرتها العلمية
اشتهرتْ “نيللي هاربر لي” بروايتها الأكثر مبيعًا لقتل الطائر المحاكي الذي ساعد على إعطاء صوت إلى فئات الشعب المنحدرة من أصل أفريقي في الجنوب الأمريكي. وهي روايتها الوحيدة، والتي كانت السّبب في فوزها بالميدالية الرئاسية للحرية عام 2007، وقد وصلت مبيعاتها إلى 30 مليون نسخة حول العالم، وهذا إنْ دَلَّ فهو يدلُّ على أن النفس البشرية مُتعطشة دومًا إلى العدالة والمساواة ورفض الظلم والاستبداد، لهذا السّبب وصلت مبيعاتُ روايتها الخالدة إلى هذه النّسبة من المبيعات القياسيّة حول العالم.