أماميَ مجموعةٌ قصصيةٌ بعنوان ( حِيرةُ أملٍ ) تتضمنُ (28) ثمانيةَ وعشرين قصّةً قصيرةً، عددُ صفحاتِها (108) مئةٌ وثمانيةُ صفحةٍ
تعمّدَ الكاتبُ بهاء المري اختيارَ عتبتِهِ الأولى لهذهِ المجموعةِ العنوانَ حيرة أمل ليجعلَكَ تتكهنُ مضمونَ المجموعةِ. فالحيرةُ هنا تقعُ بينَ اختيارَين إيجابيَين لأنهُ ألحقَها بكلمةِ أملِ والتي تبدو ككرنفالٍ قصصيٍّ كبيرٍ يحتفي بقدرةِ التأويلِ الواسعِ، وغيرِ العادي والمتاحِ. ومع أن المشتقَّ من الحيرةِ قد يقعُ بين فاعلين احتار أو احتارت، أو بينَ فعلين، أو مفعولين بهما؛ إلا أنها في جميعِ أحوالِها تعبّرُ عن ضيقٍ أو أزمةٍ. لأنّ الأملَ يتمثلُ في الحلمِ والأحلامِ، إنه مجردُ خيالٍ إن لم يكنْ أوهاماً. فالكلمةُ أملٌ وُجدتْ للترويحِ عن النفسِ، أو الابتعادِ عن الأزمةِ والتعافي من جرحِها. تُرى أيُّ مقصدٍ يقصدُهُ الكاتبُ؟
من الواضحِ أن الكاتبَ أولى اهتمامَهُ بالعتباتِ فإلى جانبِ العنوانِ اعتمدَ على ربطِ الإهداءِ المقدمِ للمتمسكين بالفضيلةِ، والداعين إليها مع العنوان بحيثُ أضافَ لنا حيرةً جديدةً. فإلى جانبِ كلمةِ الأملِ، جاءتِ الفضيلةُ، والفاضلُ هو الذي لا يخونُ وطنَهُ وقضيتَهُ وعقيدتَهُ ونفسَهُ. فهل يا ترى هنا يتحدثُ عن تلكَ الأقوامِ التي تخونُ؟
(حيرةُ أملٍ) مجموعةٌ تحملُ بنائين: إذِ اختارَ الكاتبُ فيها سرداً ممتعاً اعتمدَ فيهِ على الإيحاءِ والإيهامِ. فهو تارةً يحققُ الإثارةَ لدى القارئِ، وأخرى الانفعالَ والدهشةَ
وأما الدّلالي منها فهو يفتحُ أفقاً لدلالاتٍ تعبيريةٍ متعددةٍ، تجعلُ القارئَ يطرحُ تساؤلاتٍ تحتاجُ إلى إجاباتٍ لا تتمُ إلا بقراءةٍ واعيةٍ
لغةُ القصصِ لغةٌ من وحي الواقعِ، مكثفةٌ، مستمدةٌ من لغةِ الحياةِ اليوميةِ، وطبيعةِ الظروفِ التي يروي أحداثَها، تتقاطعُ أحياناً مع لغةٍ تتسمُ بشعريةٍ وشفافيةٍ، وأخرى مع سردٍ حكائيٍّ شفيفٍ وبسيطٍ. حيثُ اعتمدَ الكاتبُ على توظيفِ مجموعةٍ من الألفاظِ؛ لتجسدَ المعنى من خلالِ انتقائِها بدقةّ وعنايةٍ، ونَظمِها في نسقٍ خاصٍ؛ لتلائمَ مقتضى الحالِ، ولتؤثرَ في كلِّ قارئٍ، وتجعلُهُ يعيشُ الموقفَ بكلِّ شفافيةٍ
إنّ اختيارَ اللغةِ الإيحائيةِ في مفرداتِ قصصِهِ، هي أحدُ أسبابِ شغفِ القارئِ على إنهائِها بأسرعِ وقتٍ. كقولِهِ في قصةِ (أنوثة بائسة) مظهراً لهفةَ البطلةِ في استعجالِ وقتِ اللقاءِ: “حاولتُ القفزَ فوقَ الدقاقِ في انتظارِهِ” في الصفحةِ الثالثةِ والعشرين. ما أجملَ هذا التعبير! وفي قصةِ (أنا في انتظارك) نجدُ أنهُ جمعَ ما بينَ كلمتين؛ النوارسُ تزعقُ إلى جانبِ كلمةِ ( رعب) وهنا أطلقَ العنانَ ليسرحَ الفكرُ في روعةِ جمعِ النورسِ الوديعِ مع الزعيقِ والرعبِ، ليوحيَ لنا إلى وجودِ صراعٍ نفسيٍّ حادٍ تعانيه البطلةُ، وما بينَ قصةِ (امتلاك وأنا في انتظارك) يقعُ الأملُ بينَ النقيضين فكلا البطلين عاشا على أملٍ ولكن الكاتبَ استطاعَ أن يسيطرَ عليه في إيجادِ حبكةٍ دراميةٍ واحدةٍ ألا وهي إنهاءُ الصراعِ مع النفسِ واختيارُ القرارِ المناسبِ برؤيةٍ أوسعَ ليحققَ انتصارَ البطلِ أو البطلةِ في مواجهةِ هذا الضعفِ
وهنا نجدُ أنّ لمجموعتِهِ شخصياتٍ سلبية وأخرى إيجابيةً ؛صالحةً ومُصلحةً، ففي قصةِ (القتلة) نجدُ أنهُ ألقى الحيرةَ في قلوبِ وعقولِ قضاةٍ لديهم انتماءٌ وطنيٌّ إنهم في صراعٍ بين الوعي وما يقدمُهُ الورقُ من الأدلةِ. بينما في قصةِ (حِيرة أمل) والتي اختارَها عنواناً لمجموعتِهِ القصصيةِ، فقد جسدَ الكاتبُ فيها الحيرةَ وشموليتَها متمثلةً في الصراعِ الحادِ بين المصلحةِ الاقتصاديةِ والعاطفةِ بشكلٍ واضحٍ، لكنه أنهاها بدموعِ الخيبةِ. وما أدهشني كقارئةٍ قصةُ (مصرع زهرة) حيثُ جسّدَ فيها مشهداً مأساوياً لدى البطلِ حينَ تمَّ اغتيالُ الزهرةِ وتناثرتْ بتلاتُها على الأرضِ حتى اختلطتْ معَ غبارِ الأرضِ، هذهِ الكلماتُ المختزلةُ تقومُ بتسجيلٍ واقعيٍّ للحدثِ، فكلمةُ الغبارِ تشرحُ الموقفَ السلبيَّ من إهمالِ الزوجةِ للبيتِ، هذا المشهدُ الدّاميُ للمعنى صوّرَه الكاتب بتقنياتٍ سرديةٍ حديثةٍ لنقلِ الحالةِ الشعوريةِ بقصدِ التأثيرِ في المتلقين
لم تقتصرْ براعةُ الكاتبِ بهاء المري على هذا الحدِّ بل إنه خصّصَ الأفعالَ المضارعةَ للحركةِ الدؤوبةِ على فعلِ القهرِ واستخدامِ القوةِ في ساحةِ هشاشةِ الشعورِ عندَ الضعفاءِ، وأما الأفعالُ الماضيةُ فقد وظفَها لتمثلَ الغنى العاطفيَّ وتجاوبَها معَ البطلِ أو البطلةِ وجدانياً ونفسياً وربما كانت تحققُ المشاركةَ مع وجدانِ الكاتبِ
وبهذا نجدُ أن هدفَ القاصِ من وراءِ ذكرِ تلكَ الأفعالِ والصّفاتِ هو تعريةُ البعضِ لكشفِ ممارساتِهم اللاإنسانيةِ البشعةِ، وتسليطِ الضوءِ عليها
ويأتي السّرد في قصته للصورةِ وجهان؛ المساهمُ الأول في تصويرِ الحدثِ وتطويرِه، بحيثُ يوقظ وعي كلَّ قارئٍ لرؤية أفضل. ولكَ أن تتخيلَ شخصياته من خلالِ تأويل سلوكها وصفاتِها التي لامستِ المتلقيَ
أما في قصتهِ التي تحملُ عنوانَ ( بصمة أخرى) فقد كتبَها بلغةِ السردِ التقريريةِ المباشرةِ، ولعل الدافعَ على ذلكَ هو رغبةُ القاصِ في التعبيرِ عن الواقعِ بصدقٍ دون تزييفٍ أو تزويقٍ، أو بلاغةٍ تفسدُ الحقيقةَ. ولقد حاولَ القاصُ التخفيفَ من وطأةِ التقريريةِ من خلالِ تحميلِ السّردِ دلالاتٍ نفسيةٍ قادرةٍ على نقلِ شعورِ غضبِ البطلةِ بصورةٍ كوميديةٍ مزجَ فيها بينِ الحوارِ والسّردِ لتساهمَ في تأجيجِ وتحريضِ عواطفِ المتلقين
وأخيراً يمكنني كقارئةٍ أن أستخلصَ من نهايةِ هذا التحليلِ، أن القاصَ بهاء المرّي قد نجحَ في سبكِ عملهِ الفنيّ الذي جسّدَ واقعاً مليئاً بالمتناقضاتِ والمجونِ بالمعاناةِ والأسى وخاصةً تلكَ القصصُ التي أنهاها بقفلاتٍ رمزيةٍ، أشارَ فيها إلى الأثرِ الذي يبقى ولا يندملُ وإنِ انتهى الموقفُ
ولا يبقى إلا أن أؤكدَ على أن الأديبَ بهاء المرّي جعلَنا ندركُ أهميةَ القصةِ القصيرةِ وقيمتَها بكونِها جنسٌ أدبيٌّ ملائمٌ للعصر، حين وضعَ قصصَهُ بقوالبَ فنيةٍ قادرةٍ على استيعابِ الحبكةِ في منهجيةِ الكتابةِ وما صدرَ من أفكارٍ تجسّدُ لغتَهُ في البناءِ والإصلاحِ
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل