من القضايا المهمة التي عالجها الأدب هي قضية الحب بما فيه من البساطة المعقدة، وعلى الرغم من جهود الأدباء في وضع تصور لمفهوم الحب، فإن هذه الجهود لم تتعدَّ كونها تعبير عن حالة أو موقف عاطفي، وإن كانت هذه المواقف العاطفية أو هذه الحالات الوجدانية متشابهة، فالتنافس بين الكتّاب والشعراء يكمن في كيفية طرحها وإضفاء قيمة جديدة عليها، وفي كيفية بناء الأسلوب أو ابتكاره، مما يجعل قضية الحب قضية متجددة خالدة بخلود الإنسانية، وخلود الأدب.
“مشاهد متعددة للحب” للكاتبة الدكتورة رزان المغربي، هي عمل قصصي مشحون بهذه الطاقة العاطفية العميقة، والحب هو ما يجمع القصص المختلفة بشخصياتها وظروفها وموضوعاتها، فلم يكن اختيار الحب للحب فقط، إنما لقدرته على التغلغل السريع إلى نواة الوجود الإنساني، ليبرز هشاشتها وضعفها وانهزاميتها وأوهامها التي يفرضها واقع ما، فيكون الحب وسيلتها لمواجهة هذا الضياع والتشتت والوحدة .
يتميز أسلوب الكاتبة في بناء قصصها بالتلاحم بين اتجاهين: الاتجاه الرومانسي والاتجاه السياسي، إذ جعلتنا ننتقل بسلاسة وهدوء بين عوالم الحب وعوالم السياسة، واستطاعت من خلال هذين الأسلوبين أن تدفع بالقارئ إلى اتخاذ موقف عاطفي وهو التمسك بالحب ومحاربة الأقدار التي تقف عائقًا أمام وصولنا إلى من نحب نتيجة الأنظمة الاجتماعية المسيطرة، وموقف سياسي وهو التمرد والانتفاضة على الأنظمة السياسية الظالمة، حتى تتكوّن في ذهن القارئ صورة كاملة عن الواقع الإنساني العربي.
ما يلفت في هذا العمل قدرة الكاتبة على توظيف المكان الواحد بأبعاد كثيفة متنوعة، دون أن يسهم ذلك في التقليل من فنية استغلالها له بعد اتخاذه عنصرًا متكررًا في المشاهد السردية، فالمكان الواحد في هذا العمل حمّالٌ لدلالات عديدة تختلف باختلاف الظروف والشخصيات ورسم التفاصيل، مما ساعد الكاتبة في تجنيب القارئ الإحساس بالرتابة الذي يفقدها عنصر الإبداع.
إلى جانب التكامل بين الزمان والمكان داخل البناء القصصي، فالمكان (المقهى) جاء متطابقًا في بعده الرومانسي مع الزمان (الليل)، أولًا للميزة التي يتمتع بها (المقهى) كساحة لالتقاء الغرباء الذين يبحثون عن الحب، وثانيًا لخصوصية (الليل) في أنه الوقت الذي يقترب فيه الإنسان من ذاته، ويستشعر وحدتها وحاجتها إلى الآخرين، فيكون الحب فيه طريقًا للتخلص من هذه الوحدة.
أما في رسم الشخصيات، فقد حرصت الكاتبة على إشراك شخصياتها في معاناة واحدة، فمعظم قصصها تدور حول مغتربين يعيشون اضطرابًا نفسيًّا نتيجة تغربهم عن أوطانهم، يسعون إلى محاربة هذا الاضطراب والتذبذب بالحب حينًا وبالصداقة أحيانًا آخرى، وكل شخصية لها وسائلها في إيجاد هذا الحب، وجذب الآخر الذي يشاركها معاناتها. لكن الغربة داخل المجموعة لا تكمن فقط في ترك البلاد، إنما نجد بعض الشخصيات تعيش غربة عن مجتمعها في بلادها، وهي شخصيات مثقفة لا تجد لأفكارها صدى فتفضل الانطواء والإنسحاب. من هنا، فإن المجموعة القصصية المذكورة تخطّت البنى السردية لتكون أقرب إلى ما يشبه تحليلًا للذات البشرية المستسلمة أمام سطوة الماضي، واستبداد الواقع.
اعتمدت الكاتبة على تقنية العناية بالتفاصيل، والنقل الدقيق للصور والمشاهد، مما جعل المسار الوصفي يحاذي الحالة الشعورية لها، فنحن من خلال الوصف التفصيلي ونقل المشاهد نعيش مع الشخصيات عاطفتها بكل تقلباتها بين ضجر وخوف وفرح. واللّافت أيضًا، هو قلب صيغة الخطاب السردي المألوفة بين ضميري الغائب والمتكلم، واعتماد الكاتبة ضمائر المخاطب في بعض قصصها، أي أن الكاتبة تخاطب القارئ على أنه شخصية من شخصيات القصة، يتفاعل مع الأمكنة، والأحداث لتكون أشد تأثيرًا فيه، وبذلك شملت قصصها الإنسان شمولية واسعة، اختزلت المسافة بينها وبين القارئ، وبين الإنسان والإنسان.
هذا العمل يعكس دفقًا عاطفيًّا وشفافية في التعبير، أرادت به الكاتبة أن توصل بعض ما اختلج في نفسها، مع التركيز على البساطة الواضحة، واللغة الجمالية والفنية، التي تحفّز الإنسان على الانطلاق إلى الحياة، والخروج من البقعة المظلمة، لبناء الذات من جديد.