محمد الكفراوي
حالة فنية مميزة تقدمها الفنانة عبير السيد في معرضها أبيض غامق، تتميز الحالة بالوحدة الموضوعية والتشابه الكبير بين موضوعات اللوحات نظرا لاعتماد الفنانة أو تكريسها لعناصر ومفردات بعينها، بالإضافة لاستخدام مجموعة ألوان تعطي للوحات طابعا خاصا وترابطا سريا
من رؤيتي لهذه التجربة المميزة التي قدمتها الفنانة في جاليري النيل، يتضح معنى النقصان وعدم الاكتمال المتمثل في الوجوه التي بلا ملامح في جميع اللوحات سواء وجوه البشر أو الحيوانات، وينطوي عدم الاكتمال او اختفاء الملامح على سحر خاص يتعلق بالغموض الذي يحيط بالشخصية، ويجعلها قابلة لتحمل أكثر من معنى وأكثر من رمز .. تفسيرات لانهائية ومشاعر وأحاسيس ممتدة، بغياب الملامح تخرج الشخصيات من هيئتها العادية المباشرة لتتحد بالعام والمطلق، وتتجلى فيها معاني مختلفة وأفكار متنوعة وفقا لتصورات المتلقي حسب وعيه وثقافته وحسه الفني والجمالي
المرأة هي العنصر الأساسي والرئيس والأكثر حضورا في كل اللوحات، فهي البطلة الحقيقية في هذه التجربة، ربما يكون الأمر انحيازا من الفنانة لما تمثله المرأة من رمزية في الثقافات المختلفة، وما تمثله أيضا من حالة مميزة في المشاعر والأحاسيس عادة ما تجعلها في محل حزن وتعاسة أو ألم ومعاناة بسبب الرهافة النفسية التي تتميز بها طبيعة المرأة في الإجمال، وهو ما يظهر في العديد من اللوحات سواء التي تتضمن نساء مفردات أو نساء متجمعات في شبه جلسات نقاشية أو نزهات خلوية في أجواء أسطورية، هذا ما توحي به الألوان والمفردات التي تتضمنها اللوحات بشكل عام
العناصر الأخرى الأكثر بروزا في هذه التجربة ” أبيض غامق ” تتمثل في الاسم الذي يتضمن مفارقة جمالية مميزة، فالأبيض هو لون محايد تنطبق عليه معادلة اللون الصفري، كأنه أرضية للوحات أو الأعمال الفنية عموما، لكن حين يتحول اللون الأبيض إلى البطل فهو يشير إلى قوة سحرية يمتلكها هذا اللون كرمز للوضوح والبهاء والنقاء، وتعبر عن معاني مختلفة يمكن فهمها واستيعابها عبر توزيع اللون وانتشاره في مساحات متنوعة من اللوحة، بكل وربما يكون هو نفسه اللوحة وتتحول التفاصيل الأخرى إلى مجرد خطوط وألوان ومفردات هامشية في المتن الأبيض الكبير، ويلعب اللون الأبيض مع الأسود دورا مهما في تكوين اللوحات، وكأن التماثل والتجاور بينهما مطلوب لتوصيل أكثر من رسالة على المستوىين النفسي والجمالي
الطريقة المميزة التي ترسم بها الفنانة جسد المرأة، وحضور المرأة داخل العمل الفني، يعطيها طابعا سحريا، سواء عبر ألوان أخرى بخلاف الأبيض مثل الأزرق والأحمر والبرتقالي والأخضر أو مربعات الأبيض والأسود الشبيهة برقعة الشطرنج، أو من خلال الأزياء متعددة الألوان أو حتى من خلال استدعاء الأساطير والميثيولوجيا القديمة، كما في لوحة تظهر فيها امرأة تتضرع لشخص يجلس على كرسي فخم وبيده صولجان يشبه كبير الآلهة الإغريقية زيوس، ما يمنح الميثيولوجيا أو الأساطير القديمة حضورا نوعيا في هذه اللوحة وغيرها من اللوحات التي تمتلئ بالرموز والدلالات الأسطورية القديمة
كل اللوحات التي تتضمنها تجربة ” أبيض غامق ” تعطي انطباعا عاما بما تمثله المرأة من بطل محوري في هذه التجربة إضافة إلى البطل الأول وهو اللون
البطل الثالث في هذه التجربة الحيوانات، خاصة القطط باعتبارها عنصرا مشتركا في الكثير من اللوحات، فهي أحيانا في حضن امرأة وفي أحيان أخرى تجلس وديعة بجوارها، وأحيانا تظهر في خلفية المشهد، ولا تخلو بعض اللوحات من حس سريالي أو خيالي بحيث تتحول المرأة نفسها إلى قطة، فيظهر لها ذيل طويل امتداد لفستانها بلونه الأصفر، كما تظهر التماسيح في العديد من اللوحات وكأنها داخل إطار من الأحلام، فهي أحيانا فوق رأس مجموعة من النساء، وأحيانا أخرى تجلس وديعة إلى جوارهن وإلى جوار القطة في اللوحة نفسها
وبالتدقيق في شكل القطط المستخدمة في لوحات الفنانة عبير السيد خلال تجربتها ” أبيض غامق ” سنجد أنها تمثل القط المصري الفرعوني الشهير بملامحه الحادة الصلبة المستقيمة نسبيا، ما يشير إلى العمق التاريخي والحضاري والميثيولوجي الذي تحتشد به اللوحات عبر تكرار تلك التيمة فالقط في الحضارة المصرية القديمة، زمن الفراعنة، كان مرتبطا بإلهة أنثى، ويمثل كل ما هو جيد، ما يدعم فكرة الاحتفاء بالأنوثة وبالمرأة في هذه التجربة الفنية بشكل عام، والتمساح أيضا يحمل أبعادا ميثيولوجية متعددة حيث كان يعبد تحت اسم الإله سوبك، وكان يرمز به للإله الطيب أوزوريس وفي الوقت نفسه لأخيه الشرير “ست”
استخدمت الفنانة أيضا أوراق الشجر كعنصر نباتي مهم في الكثير من اللوحات، كما كانت الكلمات المكتوبة على اللوحات عمقا نفسيا للأفكار. تعددت المدارس الفنية المستخدمة في اللوحات ما بين التعبيرية والتأثيرية والسريالية وحتى التجريدية، لتتضافر كلها في تحديد الأسلوب والبصمة المميزة للفنانة التي تتضح ملامحها الفنية وتفردها في تناول الموضوعات وحرصها على وحدة الموضوع في هذه التجربة المميزة