كأنه نَقْلُ الجِبالِ ، تعريفُ الشّعر . إقتحمَ بعض القدامى مسألةَ تعريفه وتحديده فلم يتطابق رأيُ هذا المؤرخ مع ذاك ، ولا ذلك الناقد مع أولئك النقاد . أما المُحدَثُون فأغلبهم حتى لا نقول كلّهم هربوا من الاقتراب إلى تعريفِه ، وفضلوا البقاء على الحياد الآمن وكأن دقّ الأبواب على تعريف الشعر شأن مقدّسٌ يمكن أن يُتّهم فيه شخص بالكُفر أو بالتجديف . بوضوح : هناك نوع من الركون إلى نظرية غموض تعريف الشعر ، بالاستسلام إلى مجهوليّة دقّةِ مكوّناته الصغرى ، وصعوبةِ تحديد عناصره الكبرى ، وتالياً الذهاب إلى الاستسهال باعتماد تعريفات قديمة هي الأخرى موضع شكّ وتقليب شِفاه ونكران .
في كتابي “لحظة .. يا زُعَماءَ الشّعر” قلتُ سأفتح باب تعريف الشّعر بما لديّ من المخزون عنه وبما يمكن أن يكون إضافة . فبدأتُ بأن “الشّعر لُغة” تُقال وتُكتَبُ بأسلوب بلاغي معَبّر . لغة مُرفَقة بأوصاف الجمال والاختصار . لغة ، أحدُ عناصرِها الحية هو الإختلاف عن النثر، ومفتاحُها صناعةُ اختيار العبارة بدقّة ، بعيداً من الشرح .
في الدرجة الثانية قلت في كتابي أن الصفة الأقرب إلى لُغة الشّعر التي شرحناها هي “الخيَال” . لا يمكن أن تُعجب بقصيدة أو ببيت قصيد أو بفكرة إذا خلَت من الخيال . الخيال يخلّص الكلمات من “الدنيويات” المرئية والمسموعة ويرفعها إلى عالم اللامحسوس فتأتي بصُور تشارك المفاجأة في تَوليدِها . الخيال هو المادة التي لا يمكن شِعراً أن يوجدَ بدونها . هي النار التي تُجَوهرُ الكلمات .
بعد اللغة الجمالية والخيال ، تتقدم “المعاني الجديدة” في التعريف . المعاني الجديدة تستبطن قراءات ومعارف جمّة لدى الشاعر بحيث يستطيع الإتيان بمعان جديدة وبأفكار غادرَت السائد أو المألوف ، في مضمون يعالَجُ بنظرة مغايرة . كما تستبطنُ الشقّ المتعلّق بالتجربة الذاتية المصطدمة بالكون، وهذا الشقّ يستفيد من خبرات الشعراء الآخَرين ونتاجهم . فالشّعر الذي ينقل معاني قديمة لا اعتراف له بفضل . هو تكرار يجعل نفَس القصيدة يغلب عليه الروتين والضعف . وكل معنى جديد هو مشاركة في دينامية روح الشّعر .
بعد المعاني الجديدة يتقدّم عنصر “الذكاء الفني” الذي ينبغي أن يتوافر في القصيدة وفي الشاعر معاً . الذكاء الفني يعطي صورة متلألئة لخبرات الشاعر في الكتابة ومراسِه الجادّ ، ويمنح القصيدة حركيّة نابضة تبدأ من السطر الأول وتتهادى في بقية السطور بإشراف واعٍ ومدروس وإبداعي . الذكاء الفني يطال كل شيء في القصيدة ، من الكلمات إلى تركيب الجُمل إلى التنقّل من فكرة إلى فكرة . حتى اختيار الوزن والقافية يدخل في باب الذكاء الفني .
أما لماذا لم نضع الوزن والقافية من ضمن تعريف الشعر فلأن هناك شعرا عالمياً لا على أوزان ولا على قوافٍ فهل نلقي به إلى التهلُكة بمجرّد أن الشّعر العربي وغيره لدى بعض الأمم كان وما زال موزونا مقفّى ، ومنذ سبعين عاماً تحرّر بعضه ؟
هي دعوةٌ إلى الإسهام في إيجاد تعريف حقيقي للشّعر ليس فيه نقصان في شيء . التعريفات من الجاهلية إلى العصر العباسي كانت تضرب وتراً وتتناسى أوتاراً أخرى يتطلبها الشّعر . إن مرور الزمن ، واختلاط الأمم ، وتمازج الفنون ، والعلوم ككل ، والتحليل والتعليل والاستنباطُ كلّها تسهّل الطريق لإيضاح التعريف الصحيح، الأقرب، للشّعر .
لكن ، من باب آخر : هل تعريف الشّعر يؤدي إلى حصْره بنوع واحد … أم أنّ الشِّعرَ أنواع ؟
الشّعرُ أنواعٌ ،منهُ الثقيلُ الذي يحتاج بصيرةً معرفيّة في فكّ رموزه ، وإدراكاً عالياً في تظهيرِ صُوَره أو لملمة توزُّعِها نظراً لغموضِ بُنيَته ، وهو ذاتُه فئتان واحدةٌ تشبه الطلاسم ، وأُخرى تُداعب الوضوح ولا تبتذِلُهُ . ومنه الرقيق الشفّاف الذي يلامسُ القلبَ بإيحاءاته ويطبعُ في النفسِ تقاسيمَه رشيقةً بلا إِعمالِ تفكيرٍ صعب . وهو ذاتُه فئتانِ ، واحدةٌ تُحلّق من دون أن تختفي صعوداً ، وأُخرى تتراقصُ واضحةً على الأرض . ومن الشّعر ما يتداخلُ فيه النوعان أحياناً !
…وكل نوعٍ شِعريّ يعتبرهُ أهلُه ، الأحَقّ والأدَقّ !
أحسنتم وأجدتم وأفقأتم عيون المتجبرين والمتحجرين في مبدأ (الصعب اللاممكن) ورامين بسهامهم القاتلة على مبدأ(السهل الممتنع) و(الحُر) وكأنهم أرسلهم الله لمحاسبة الخائضين بغير غمار مبدأهم.. ولَكَمْ عانيت من تهكمهم؟
شكرا لمرورك الاديبة تغريد نتشرف بك وبمشاركتك
تحية لك الأدبية فرنشيس معكم الدكتور إبراهيم محمد جبريل من كاميرون
شكرا على خدمتك للأدب ، ولي قصائد شعرية ، حيث أنتمي إلى المدرسة الرمزية متأثرا بالشاعر الفيتوري والشاعر الرئيس سنغور.
سوف أرسلها لك قريبا
تحياتي لك، واهلا بك في الغرفة ١٩ مجلتكم