بقلم د. جوزاف الجميل
من يرتّبُ لي مسائي
قليلٌ من خمرةِ الأزهارِ
أفتحُ نوافذَ الليلِ
وفوقَ طاولتي ورقةٌ
وعلى الكرسيِّ منديلٌ أحمرُ
كومةٌ من الرسائلِ
تجهشُ فوقَها الحروفُ
تقرعُ العواصفُ نوافذي
وملحُ جسدُكَ
يسيلُ من دمي
يرتفعُ ضوضاءُ الموجِ
يلتفُّ حولَ جسدي
ينامُ وجهُكَ في كفّي
يرتعشُ مثلَ عصفورٍ
هاربٍ من وجهِ الصيّادِ
الليلُ يطولُ
على إيقاعِ قلبٍ نهشَهُ الشوقُ
تعرى من عتمتِه
حولَه الريحُ والمدى
من يرتّبُ المساءَ
من يهدّئُ خلايا جسدي
ومن يبلسمُ الأشواقَ في شفتي
سيرحلُ الليلُ
ويرتفعُ النهارُ
والزهرُ ينحني
وفي البعيدِ
رملٌ وصحارى وهواجسُ وذكرى
أتقلّدُ الرحيلّ مرةً أخرى
تحاصرُني الوجوهُ
والأحلامُ تصطلي فوقَ الشفقِ
أستلّ وصايا أمّي
من كتابِ اللغة
أقشّرُ الحروفَ من فوقِ الصفحاتِ
علّني ألقاكَ بينَ السطورِ
وفوقَ سريرِ الغمامِ
يطيرُ الحمامُ
يغطّ الحمامُ
غنِّ لي
أريدُ أن أنامَ
اخلاص فرنسيس
شاعرة تعانق الوجد العرفان بذراعين نورانيين بامتياز. لها في البوح أناشيد تغازل الشمس والقمر في آن
على حدود المساء، ترسم إضاءة، من ألف ليلة وليلة. تخالها الريح المدماة حينا، بأظافر القدر. وتحسبها الماء الهادر، من شلال الروح، أحيانا، تسكب على قدميك طيب شعرها المعتق بخمرة الشوق الإيمان
إنها الشاعرة إخلاص فرنسيس، حاملة مشعل الذات، بل قنديل ديوجين، وصخرة سيزيف، وقيثارة أورفيوس
للشاعرة ديوان عنوانه: وأمضي في جنوني، اخترنا منه هذه القصيدة
قصيدة القراءة بلا عنوان. وفي هذا امتداد عنوان الديوان إلى تفاصيل القصيدة، محور القراءة
وأمضي في جنوني
إلى أين تمضي الشاعرة في جنونها الهائم بين النسبي والمطلق
تبدأ الجملة بالواو. فنسأل: أهي واو الحالية أم الاستئنافية؟
الاحتمالان ممكنان، وإن كانت الأرجحية للاستئناف
والفعل أمضي مضارع يوحي الاستمرارية والرحيل. والرحيل هنا دلالته التوغل في الفعل. والفعل كما يقول بول كلوديل هو الشعر. وتراه الشاعرة فرنسيس رديفا للجنون
أما ياء المتكلم المتصلة بالجنون فتعطي الكلمة معنى خاصا بعيدا كل البعد، عن مشاركة الناس حالهم والصفات
ما الذي يميز جنون الشاعرة ويدفعها إلى اختراع جنون خاص بها، تتوغل فيه، بلا هوادة، أو رجوع؟
واستطرادا، نصل إلى القصيدة، موضوع القراءة. هي قصيدة بلا عنوان. ولعل ذلك مردّه إلى التصاقها البنيوي بثنائية محورية في الديوان: الجنون/الشعر. وهذا ما دفع الشاعرة إلى طلب المساعدة لترتيب مسائها. والمساء هو ذروة العمر ونضجه وفعل اكتمال دورة الحياة
يسيطر على القصيدة، انطلاقا من ثنائية الحضور/ الغياب قلق الموت. فالمساء استعداد للغياب والرحيل. والشاعرة تطلب النجدة كي تواجه هذا القلق المصيري، وتنزل عن كاهلها صخرة الشقاء
خلايا جسدها مصابة بالجنون، تحتاج إلى مهدئ يريحها من القلق/الملح/ الشهوة
حضورها غدا أشواقًا أججت نارٗها الريح والمدى
وفي البعيدِ
رملٌ وصحارى وهواجسُ وذكرى
أي بعيد يؤرق الشاعرة السندبادية الهوى والخصال؟
بل أية رحلة تخشاها، وهي تخوض عباب أمواج القدر؟
عشرين مرة تكرر ضمير المتكلم، في اتصاله والاستتار. وهذه إشارة إلى نوع من الدفاع عن الأنا، في مواجهة ضمير غائب( عشر مرات) ومخاطب( أربع مرات)
وفي حين يعيدنا رقم عشرة إلى الوصايا العشر، فإن الرقم أربعة رمز للجهات الأربع التي تستنجد بها الشاعرة من أجل الدفاع عن كيانها، ومواجهة القلق الوجودي
في القصيدة صراع بين المغلق والمفتوح. فالوجود يطبق على الشاعرة، يقيّد حركتها، يسجن فكرها والجسد. والحلم يحرّرها من الأسر، كذلك الكتابة والشعر والطبيعة، فترتفع إلى فوق، إلى غمام الأحلام والحرية والانطلاق
الليل قيدٌ لفكرها، ولكن إيمانها بدورة الحياة، يقودها إلى النهار، من جديد
إخلاص فرنسيس، أيتها الشاعرة المتوشحة بالجنون الحنون، لن يخدعنا بحثك عن الذات، في أعطاف الآخر. ولن ننجرف معك إلى عمق محيط الشعر، خشية الغرق. فسفينة شعرك دائمة الإبحار، إلى جزر الأحلام، حيث تريدين أن تنامي. ونحن ننتظر، بشغف، عودتها إلى مرافئ الصحو، محمّلة بالمحار، من أعماق البحار النورانية
تحاصرها الوجوه، ويطلق سراحها الحلم. ولكن أي وجوه تقصدها الشاعرة؟
لعلها ذكريات ماض، وهواجس حاضر، وأوهام غد، تتمنى الشاعرة ألا تعود
لعلها جراح في القلب تدميه، وتدفعها إلى النسيان، عبر الرحيل، مرة أخرى
أتقلّدُ الرحيلّ مرةً أخرى
كيف يصبح الرحيل قلادة؟
إن كان الرحيل الآخر هو الموت، فالرحيل الأول هو الولادة. وبذلك تتساوى المرحلتان، ويصبح العمر قشورا وهباء. وقد حاولت الشاعرة أن تقشر الحروف/الحياة/ العمر، علّها تصل إلى النسغ الأنقى والأبقى، فلم تجد وسيلة للهرب إلا الحلم، وسرير الغمام. ولعل الحلم الأكبر كان الموت، من خلاله ترجع الشاعرة طفلة، تغفو على الأغاني والأنغام
أيكون المخاطب في هذه القصيدة هو الموت، أم حبيبا خياليا، أو الأنا الأعلى الذي يسير بالعمر إلى حيث يشاء، بين سلطان اللاوعي وغربة الأوهام؟
إخلاص فرنسيس، أيتها الشاعرة المتوشحة بالجنون الحنون، لن يخدعنا بحثك عن الذات، في أعطاف الآخر. ولن ننجرف معك إلى عمق محيط الشعر، خشية الغرق. فسفينة شعرك دائمة الإبحار، إلى جزر الأحلام، حيث تريدين أن تنامي. ونحن ننتظر، بشغف، عودتها إلى مرافئ الصحو، محمّلة بالمحار، من أعماق البحار النورانية
إيَّـاكِ
دكتور جوزاف ياغي الجميل، في زمن الوجع تلتقط زهرة ياسمين تلوح بها عبر الفضاء الأزرق كاسراً برودة المسافة، وحواجز البشر، تهز قلمك، يتناثر عبيره، الياسمين، تبلسم دون ان تدري تداوي جرحاً وترتق آخر عن غير قصد، تمسك جسد القصيدة بمبضع جراح عرف كيف يستخدم أدواته لتأتي قراءتك أغنية مطر في صيف لاهب، محملة ببخور الأرز وحنين الشربين، وصوت فيروز وأصالة وديع الصافي في نقاء خرير صوته العذب تأتيني بكل لبنان، بحره بره وجبله بل أعدتني إليه وانت تقشر المعنى وترسم أبعاد أخرى للكلمات، أشكرك قليلة جداً، لغتنا مقصرة رغم اتساعها تضيق امام اتساع مدى حرفك، تحياتي وباقات الياسمين
إخلاص فرنسيس