طوني طراد
ولد الشاعر مسعد طراد الذي طوّع أوزان السريانية ضمن الزجل اللبناني في قرية برحليون قضاء بشري، سنة 1906
كان والده موسى طراد كاهنًا وَرِعًا، مُحِبّا للعلم ساعيًا الى نَشره. وهو بالإضافة الى تأديته واجباته الدينية والكنسية، كان يُقبل على تدريس اللغة العربية لأبناء قريته والجوار في “مدرسة تحت السنديانة”، إضافة الى السريانية والكرشونية
شَبّ مسعد في برحليون وسط أجواء الزجل، الذي أجادَه منذ صغره، وأضحى يتمتّع بثقافة لا يُستهان بها في تلك الأيام، فبالإضافة الى اتقانه اللغة العربية، كان مُجِلّاً بالسريانية والكرشونية… وكان يقرأ “السنكسار” بطلاقة في الكنيسة، ويَنهل من الكتب الكنسيّة التي شَجّعه والده الكاهن على قراءتها
اشتُهِر بخِفّة ظِلّه وسرعة بَديهَته، وكان في معظم الأحيان يرتجِل زَجليّات “على الحَارِك”… ففي إحدى المرّات كانوا يتَنَدّرون في ساحة القرية ببطولات شاب بَرحليونِيّ قوي البُنية يُدعى حنّا، وبأنه يَعتَدّ برجولته أمام الصبايا اللواتي كنّ يَتضاحَكن عليه لأنه “غَشيم” ويشتغِل للناس من دون أن يأخذ منهم نقودًا… فوقفَ حنّا بينهم وأخذ يَتفاخَر أمام الموجودين بأنه يستطيع أن يحفر الأرض بيده اليمنى من خلال ضَربتين بـ”الأكس”، وهو آلة حديدية كانوا يستعملونها للحفر بُغية وَضع “الدَلَميت” لتفجير الصخور وفتح الطرقات… فتحَدّاه موسي، الإبن الأكبر للشاعر مسعد طراد، ووضَع شَرطًا أمام الموجودين بأنّ حنّا لا يستطيع القيام بذلك، فانبَرى مسعد من بينهم وارتجَل زجليّة قال فيها لابنه
حَنّا بـْ ضَرب الإْكوسِي
أرجَل مِنّك يا موسي
معَوّد عا شِغل العَونات
وكْباس السَندروسي
كان مسعد من أوائل الذين طَوّعوا أوزان اللغة السريانية في الزجل اللبناني، فنظَمَ زجليّات كثيرة تنمّ عن احترافيته في هذا “الباب”، حتى أصبح “صاحِب مدرسة” تُمَيّزه عن الزجّالين الذين سَبقوه أو جاؤوا بعده… والذي يقرأ نِتاجه المَهدور، عليه أن يكون “ضَليعًا” في الأوزان السريانية لكي يَفقَه كَيفيّة تطويعها من قِبَل هذا الشاعر، ومِثالنا على ذلك هذه النادرة
وين كِنتو يا بِت توما
والساعه تْلاتِه
كَهنِة بِلّا وعْموما
معَوّد ما تْباطي
جَات بنِهران
واجتَمعو كِلّ الجيران
مِن حَول الشّاطي
والبَكليك وبيت كِسّاب
شَرْفونا من دونِ حْساب
جَو يحْضَرو قَدحِتهُن
آه يا فَرحِتهُن
وإنّ أسماء القرى التي يذكرها في زجليّاته كانت مُجاورة لقريته برحليون أو من ضمن قرى قضاء بشري، مثل: بلّا، عبدين، بنهران، البَكليك، بيت كسّاب… وكان سكانها يحفظون “نَهفات” هذا الشاعر وقصائده ويتداولون بها في سهراتهم وتجمّعاتهم
بَعد أن أصدر البطريرك الماروني أنطون عريضةحُرمًا كنسيًا على الشاعر مسعد طراد، بسبب خلاف عقاري نَشَب بينه وبين الكنيسة المارونية على امتلاك “دَيرونا”، وهي أرض ذات مساحة كبيرة في أعالي قرية برحليون، آثَر أن يَعتزل البَشَر وأصبح يقضي معظم أوقاته في عقار يملكه ضمن “خْراج” قريته يُدعى “بْديعَه”، وكان يَعتني به وينظم معظم أشعاره بين أشجاره وصخوره… ولقد انقسمت زجليّاته في تلك المرحلة من حياته الى قسمين
– جِنّاز لِعب الورَق: مَقاطع شعريّة عامِيّة مُوقّعة على أوزان اللغة السريانية، “يَتنَمّر” من خلالها على سكان قرى قضاء بشري المحيطة ببرحليون، زاكرًا فيها يَوميّاتهم في “لعب الوَرق” بأسلوبٍ مُضحِك ومُحَبّب
– جِنّاز الكَهنة: قصائد وقِرّاديّات عامية مُوقّعة على أوزان اللغة السريانية، ينتقد فيها تصرّفات الإكليروس وجَبروته على البَشَر
ومنجِنّاز لِعب الورَق هذه الطُرفة
عَ مَرجِة عيسى اصطَفّو
يـَ أهالي عَبدين
اعمِلو حَلقَه والتَفّو
حَول المَغلوبين
ليشَع شَمعون
يبَخِّر بـِ وَرق طَيّون
ويزيد التدخين
وبو مِرشِد بالحِسّايه
يعمِل دْعايه
كِف عِرفو بِنت الديناري
مِن صورِة ماري
فحَبّذا لو تُجمَع قصائد هذا الشاعر ونَوادره وطرائفه التي ما زال الناس يردّدونها “أبّا عَن جد” ضمن قريته والقرى المحيطة بها… أمّا إذا كانت قد جُمعَت، فمن المُستحسن أن تُطبع بين دَفّتي كتاب لكي يُقبل الجميع على قراءتها، والاطلاع، من خلالها، على فِكر شاعر تفَرّد بتطويع أوزان اللغة السريانية في الزجل اللبناني