ظلت مقاربة الثلاثي المقدس إياه، المحظور التوسع فيه حتي لا يصبح “مدنس” وما زال بالنسبة للمبدعين والدارسين في حقول الفنون والآداب كافة، معضلة المعضلات، ولا سيما في المجتمعات المتشددة التي تُماهي بين الأدبيات الاجتماعية، أو ما يطلق عليه الثوابت الفكرية والعقدية، والمقاصد الفنية وتجلياتها التي لا يمكن أن تكون إلا في وفاق في نهاية مع القيم الإنسانية العليا في كل زمان ومان: الخير والحق والجمال.
إنه الثلاثي المقدس بحسب الأدبيات الدارجة: السياسة ، والجنس، والدين، وبلغة أهل الرقابة والوصاية : الأمن الوطني، والأخلاق، والعقائد المقدسة. وبعض هؤلاء لا يصدر إلا عن أفق ضيق أوعمى في البصيرة الفنية وعن عجز واضح وفهم فاضح في تصديهم في الحكم على على الفنون بشتى أنواعها ومختلف أشكالها. فتتحول التعبيرات إلى مفردات لا علاقة بعالم الفن بمشيئة حارس بوابة شرس (gate keeper) وقابع في وعي هذه أهل الرقابة والوصاية، أفرادا كانوا أومؤسسات ، مادية أو افتراضية.
“التابوهات في روايات ليلى الأطرش” هذا هو العنوان الذي اختارته الباحثة سالي خليل لكتابها … ومن الممكن أن يُقدم هذا الكتاب من خلال أربعة مرتكزات: موضوعه ثم محتواه، ومنهجه، إضافة إلى بعض التنويهات التي قد تستوجبها هذه المرتكزات، من هنا أو من هناك.
أما موضوع الكتاب (وثمة فرق كبير بين الموضوع والمضمون)، فهو واضح في العنوان، التابوهات والرواية، وحقيقة الأمر أن التابوهات، أو ما يطلق عليها بقدر من التجاوز الدلالي “المحظورات” جانب أساسي لا بد أن يبسط ظله وهواجسه، بل قل حدوده وجدرانه في كل عمل فني وكل حقل إبداعي يطمح في أن يرى النور.
ولطالما كان الأمر موضع جدل وصراع في الغرب حتى في العصور التي تلت ثورة الإصلاح الديني في أوربا، والمفارقة أن تاريخ الإبداع – والحق لابد أن أن يقال – يشهد للشرق بإبداع أغنى وتسامح أرحب واسفاف أقل … ألف ليلة وليلة مثلاً …
إن اختيار هذا الموضوع والخوض فيه في بيئتنا التي تأخذ بعين الاعتبار أعرافنا الاجتماعية، وثوابتنا العقدية والفكرية … يحتاج إلى شجاعة وحصافة. وهذا ما عُرف عن هذه الباحثة الذكية ومتقدة الحماسة العلمية والشجاعة الأدبية.
وتأكدت حصافة الباحثة في اختيارها لموضوع عن تجربة ليلى الأطرش التي ظلت أعمالها العنوان الأبرز لمقاربة ثالوث التابوهات في الحركة الأدبية في الأردن. وكان هذا على ما يبدو امتدادا لمرحلة تكون المفاهيم لدى الباحثة بإجراءات تطبيقية في الأدب المحلي، كون موضوع التابوهات لا يمكن لأي باحث أن يستهل مقارباته بمنأى عن أدبه المحلي الذي يقارب بدوره مجتمعه الأقدر على فهمه، أعني مجتمعه المحلي، وهكذا فقد حضر المتطلب الأهم للمحتوى أو المضمون : السردية المحلية والنسائية على وجه مخصوص، بأنصع صورها: أعمال ليلى الأطرش الروائية تحديداً، وأبلت سالي بلاء حسنا في رسالتها متكئه على منهجية علمية أمينة وصارمة.
لقد التزمت بالإطار الموضوعي الداخلي للكتاب: أعني التابوهات، إذ إن من المعروف أن روايات ليلى الأطرش تغري الباحثين بتناول متعدد الجوانب فنيا وموضوعيا؛ فهذه المؤلفة ذات تجربة طويلة وباع طويل في الحقل الروائي، ويحسب لها أنها ارتادت أرضيات خصبة لأعمالها ولكنها مزروعة بالألغام، في مرحلة مبكرة من مسيرتها، ولئن مضت الأمور عند سالي بسلام بالنسبة لمغامرات المحتوى الفكري فنالت درجتها العلمية على أساس صنيعها، فإن الأمور بحصافة الباحثة، ولغتها الواضحة وتعبيرها اللغوي الحذر على مافيه من هنات، لم يقع فريسة الاستطراد، ولم تأخذه نشوة الغلو نحو فكرة ما في أي عمل روائي تدرسه، مما أمكنها أن تنجز البحث بسلام دون أن تضحى بقناعاتها أو ترتبك أدواتها، في الخوض بموضوع قد لا يعرف من يشتبك معه إلى أين ستقوده مسائل البحث الشائكة وتفريعاته الممتدة في أكثر من اتجاه، ومتى وأين ستفنجر الألغام في طريقه.
قدمت الباحثة جهدا نقديا جدير بمستوى أعمال كاتبة متمرسة لها تجربتها الطويلة والغنية، لامست خلالها قضايا حساسة مستندة إلى مرجعية معرفية معمقة، ورؤى فنية أنضجتها تجارب ممتدة لأكثر لأكثر من نصف قرن.
وأحسب أن سالي خليل، بهذا الإنجاز العلمي الحصيف، ستلفت أنظار العديد من الباحثات والباحثين وطلبة الدراسات العليا بخاصة، إلى أهمية ارتياد عوالم جديدة لأعمالهم واقتحام مناطق حساسة ولكنها ثرية ومن شأن الاشتباك معها أن يوسع الرؤى ويشحذ الأدوات. صحيح أن هذا الطريق من شأنه أن يتسبب أحيانا بمتاعب تضاف إلى متاعبنا، نعم قد يكون هذا صحيحاً ، ولكن الجمود والنكوص لا يصنع ناقداً، ولا حتى
مشروع ناقد.
المصدر: صحيفة الدستور الجمعة ١٣/ ٩/ ٢٠٢٤