سلمان زين الدين
سلمان زين الدين
كثيرةٌ هيَ السَّردياتُ التي تتّخذُ من الحمارِ قناعًا روائيًّا يُخفي به الكاتبُ وجهَهُ الحقيقي، لأغراضٍ في نفسِ يعقوب، فيقولُ ما يريدُ قولَهُ، من جهة، وينأى بنفسِهِ عن المساءلة، من جهةٍ ثانية، فمن “حمارِ الحكيم” لتوفيق الحكيم، إلى “المتشائل” لإميل حبيبي، إلى “حمار من الشرق” لمحمود السعدني، إلى “أنا وصديقي الحمار” لمحمود شقير، إلى الحمار بين الأغاني” لوجدي الأهدل، على سبيلِ المثالِ لا الحصر، يتحوّلُ الحمارُ إلى شخصيةٍ روائيةٍ يقولُ الكاتبُ بواسطتِها ما لا يستطيعُ قولَهُ بنفسِه. وهيَ حيلةٌ قديمةٌ جديدةٌ استخدمَها الأدبُ، عبرَ العصور، في مواجهةِ السلطة. ولعلّ كتابَ “كليلة ودمنة” لعبدالله ابن المقفع خيرُ مثالٍ على هذا الاستخدام.
حيلة قديمة
هذهِ الحيلةُ الروائيةُ يلجأُ إليها الروائي السوري نبيل سليمان في روايتِهِ الأخيرةِ “تحوّلات الإنسانِ الذهبي” الصادرةِ مؤخّرًا عن منشوراتِ “خطوط وظلال” في الأردن لأغراضٍ في نفسِهِ، لعلّ بعضَها الإمتاعُ والمؤانسةُ والجِدُّ والهزلُ والسخريةُ والدعابةُ والتسليةُ والتصريحُ والتلميحُ والتقيةُ وغيرُها. وغيرُ خفيٍّ على القارئ النبيهِ أن عنوانَ الروايةِ تنويعٌ على عنوانِ الروايةِ اللاتينيةِ “تحوّلات الجحشِ الذهبي”، إحدى أقدمِ الرواياتِ في التاريخ، للكاتبِ اللاتيني الأمازيغي لوكيوس أبوليس (125 – 180)، المكتوبةِ منذُ تسعةَ عشرَ قرنًا. ولعلّ السببَ في هذا التنويعِ يعودُ إلى أنَّ البطلَ في كلتا الروايتَيْنِ متحوّلٌ عن شخصيةٍ أخرى؛ فلوكيوس في “تحوّلاتِ الوحشِ الذهبي” إنسانٌ تحوّلَ إلى حمارٍ بفعلِ خطأٍ سحري، وكارم أسعد في “تحوّلاتِ الإنسانِ الذهبي” إنسانٌ يعتقدُ أنهُ كانَ حمارًا في جيلِهِ السابق.
في روايتِهِ الجديدة، يقتفي نبيل سليمان أثرَ “كليلة ودمنة” في كتابةِ نصٍّ حمّالِ أوجه؛ ظاهرُهُ لهوٌ وهزلٌ وباطنُهُ نقدٌ وجِد، معَ فارقِ أنّ الروايةَ تتمحورُ حولَ حيوانٍ واحدٍ هوَ الحمارُ يدورُ الكلامُ حولَهُ أكثرَ ممّا يتكلّمُ بنفسِهِ فيما الكتابُ تتعدّدُ حيواناتُهُ وتستأثرُ بمهمّةِ الكلام.
ظاهر النص في ظاهرِ النص، يقومُ الروائي / الراوي ببحثٍ حولَ الحمارِ وما يتعلّقُ بهِ في الآدابِ المختلفة، فيطاردُهُ في مائةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ مصدرًا ومرجعًا، ما يجعلُ روايتَهُ نوعًا من بحثٍ أكاديمي؛ يتمُّ تقديمُهُ في إطارٍ روائي. وهوَ يفعلُ ذلكَ من خلالِ بطلِ الروايةِ كارم أسعد المتحوّلِ عن حمار، والمختصِّ بالكتاباتِ الحمارية، فيروحُ يطلبُها في مظانّها الكتابيةِ والشفاهية، وينخرطُ في حواراتٍ عنها، ويحضرُ المنتدياتِ الثقافيةَ التي تُفرِدُ جزءًا من فعالياتِها للحمار، ويُلقي المحاضراتِ التي تُعلي شأنَهُ في المحافلِ الدولية، وتُبيّنُ فضلَهُ على العالمين، وتُبرزُ دورَهُ في صناعةِ الحضارة. وتتمخّضُ عن ذلكَ مادّةٌ معرفيةٌ غنية، نتعرّفُ فيها إلى أنواعِ الحميرِ وجنسياتِها ووظائفِها حولَ العالم، في فضاءٍ نصيٍّ يختلطُ فيهِ الجِدُّ بالهزل، والسخريةُ بالطرافة، والدعابةُ بالظرف، والحكايةُ بالأسطورة
باطن النص
في باطنِ النص، يقومُ نبيل سليمان بنقدِ الواقعِ في العالمِ المرجعي لروايتِه. وهوَ على الرّغمِ من نفيِه، على لسانِ بطلِه، اتخاذَ الحمارِ قناعًا للنقد، بقولِهِ: “كلّهُم يجعلونَ من الحمارِ قناعًا ليقولوا قولَهُمْ. هذا، على الأقل، غيرُ كافٍ. أنا لا أفعلُ ذلك، ولن أفعلَ” (ص 13)، فإنَّ نصَّهُ يدحضُ نفيَهُ، فينقدُ، من خلالِ المقارناتِ التي يعقدُها بينَ الحميرِ والبشر، القمعَ والاستبدادَ والغدرَ والذكوريةَ والحربَ الأهليةَ والفسادَ وسواها من أعطابِ الواقعِ العربي. وهوَ، في مقارناتِهِ الكثيرة، يُدني من شأنِ البشرِ حينَ يتحدّثً ساخرًا عن الحمارِ القائدِ والفيلسوفِ والمثقفِ والقبائلِ الحماريةِ التي يغزو بعضُها بعضًا، من جهة، ويُعلي من شأنِ الحميرِ حينَ يرى أن الحمارَ لا يغدرُ بصاحبِه، ولا ينقلبُ على رفيقِ سلاحِه، ولا يتجسّسُ على بني قومِه، من جهةٍ ثانية. وفي الحالتَيْن، تنجلي المقارنةُ عن تقديمِ الحميرِ على بني آدم.
تُغطّي الرواية، على المستوى الزماني، حوالى سبعةِ عقود، تشملُ العقودَ الخمسةَ الأخيرةَ من القرنِ العشرين والعقدينِ الأوّلينِ من القرنِ الحادي والعشرين. وتجري أحداثُها، على المستوى المكاني، في مجموعةٍ من المدنِ السوريةِ والتركيةِ والعربية، تشملُ بينالين والرقة واللاذقية وأنطاكية وأكياكا وإزمير والكويت والرباط ومكناس وغيرَها، على أنّ بينالين السورية، مسقطَ رأسِ بطلِ الرواية، هيَ المكانُ المحوريُّ الذي ينطلقُ منهُ البطلُ ويعودُ إليه.
تتمحورُ الأحداثُ في “تحوّلاتِ الإنسانِ الذهبي” حولَ كارم أسعد الذي يُطلقُ عليه والدُهُ في صِغَرِهِ لقبَ “يحمور”، ويُقسِمُ أنّ ابنَهُ كانَ في الجيلِ السابقِ حمارًا ابنَ حمار. والمفارقُ أنّ الابنَ يُصَدّقُ هذهِ الفرضية، ويَفخَرُ بأصلِهِ الحِماري، ويتّخذُ من الحمارِ مشروعًا لروايتِه، وينخرطُ في جميعِ الأنشطةِ الثقافيةِ الحِمارية، ما يجعلُهُ طرفًا ثابتًا في شبكةٍ علائقية، ينتمي أطرافُها المتحرّكونَ إلى الطبقةِ المتوسّطة، فنجدُ بينَهُم الكاتبَ والأستاذَ الجامعيَّ والصيدلانيةَ والمعارضَ السياسيَّ والمعلّمَ والمستشارَ الإعلاميَّ والمخرجَ التلفزيونيَّ والممثّلَ وغيرَهُمْ، وَنَجِدُ علاقاتٍ متنوّعةً فيما بينَهُمْ، تَطولُ أو تَقصُرُ حسبَ مقتضى الحالِ الروائي، وتتراوحُ بينَ الزمالةِ والصداقةِ والحب، وتتمخّضُ عن شخصياتٍ روائيةٍ مختلفة، لكلٍّ منْها ملامحُها وصفاتُها المختلفةُ عن الأخرى. على أنّ المفارقَ، في هذا السياق، تَعالُقُ البطلِ مع شخصياتٍ تاريخية، أدبيةٍ أو سياسية، بشكلٍ أو بآخر، من قَبيل: عبد السلام العجيلي والطيب صالح ومؤنس الرزاز وعبدالله عبد في الأدب، وشكري القوتلي وحافظ أسد وصلاح جديد وغسان جديد في السياسة، ما يُوهِمُ بواقعيةِ الرواية ويُخفّفُ من غرائبيّتِها.
شخصيات إيجابية
في شخصياتِ الرواية، يلعبُ كارم أسعد دورًا محوريًّا في الأحداث، ويقومُ بأدوارِ الزميلِ والصديقِ والحبيب. تتمظهرُ الزَّمالةُ في علاقتِهِ مع زميلَيْهِ في التعليم إياد شمّوحي ومنير المورو، واشتراكِهِم في مغامراتٍ غراميةٍ عابرةٍ في نيبالين. وتتمظهرُ الصَّداقةُ في علاقتِهِ مع غالي لبلابي وزوجتِهِ منصورة في اللاذقية، ومع أصلان علي وزوجتِهِ أسيل في أنطاكية، وتقومُ العَلاقةُ بينَ الأصدقاءِ على الثقةِ المطلقةِ والاهتمامِ المتبادَلِ، ولم يَكُنِ الخلافُ في وجهاتِ النظرِ السياسيةِ لِيُفْسِدَ للودِّ قضية. ويتمظهرُ الحبُّ في عَلاقاتٍ لا تُؤتي ثمارَها، وتنقطعُ قبلَ بلوغِ خواتيمِها المنشودة؛ فَعَلاقتُهُ مع زلفى، ابنةِ المختار، في مرحلةٍ عمريةٍ مبكّرةٍ تنتهي بفضِّ بُكارتِها ذاتَ عصر والفرارِ إلى الرقةِ للتدريسِ في إحدى مدارسِها، وعلاقتُهُ بتولاي سيرجين، الأستاذةِ الجامعيةِ التركية، تمرُّ في مدٍّ وجزر، وتنتهي بلقاءٍ حميمٍ في الأوتيل والعودةِ إلى مدينتِهِ بينالين، وعلاقتُه بلوزية، ابنةِ مدينتِهِ التي تقومُ على خدمتِه، تنتهي بأن يقومَ أخوها بالتنكيلِ بها. وبذلكَ، نكونُ إزاءَ شخصيةٍ متذبذبةٍ بينَ الرغبةِ في الشيءِ والرغبةِ عنْه، في الوقتِ نفسه. وينسحبُ هذا التذبذبُ على موقفِها من الزلزلةِ السورية، فتترجّحُ بينَ المعارضةِ والنظام، وتُحَمّلُ الفريقَيْنِ مآلَ الأحداث، ولا تتّخذُ موقفًا واضحًا منْهُما، رُغمَ ما نقرأُهُ بينَ السطورِ من تصريحٍ بأخطاءِ النظامِ وتلميحٍ إلى خَطاياه.
إلى شخصيةِ كارم أسعد المحورية، نتعرّفُ إلى مجموعةٍ من الشخوصِ المتعالقةِ معَها، بِعَلاقةٍ أو بأخرى؛ فغالي لبلابي، زميلُ كارم في الثانويةِ الصناعيةِ وصديقُهُ الدائم، أستاذٌ جامعيٌّ يُسجَنُ لسنواتٍ في سجونِ النظام، ويُطرَدُ من عملِه، ويُمنَعُ منَ السفر، فينخرطُ في أعمالِ الثورة، ويدفعُ ثمنَ انخراطِهِ غاليَا. ومنصورة، زوجتُهُ المصرية، تُشارِكُهُ في صداقةِ كارم، وَتَقِفُ إلى جانبِ زوجِها، وتتحمّلُ تَبِعاتِ معارضتِه، وتجترحُ الأحلامَ وتسعى إلى تحقيقِها. وأصلان علي، المعارضُ التركيُّ السوريُّ الأصل، يهتمُّ بصديقِهِ كارم، ويدفعُ ثمنَ تعاطفِهِ مع الأكراد. وأسيل، زوجتُهُ، تُشاركُ زوجَها أفكارَهُ واهتمامَهُ بصديقِه. وتولاي سيرجين، تَتَجاذَبُها مشاعرُ متنوّعةٌ إزاءَ كارم، تَتَراوحُ بينَ الصداقةِ والحبِّ والاشتهاء. ولوزية، خادمةُ كارم، تقومُ على خدمتِه، ويَتَحابّانِ دونَ زواج، وَتَدفَعُ ثمنَ ذكوريّةِ أخيها استيلاءً على بيتِها الصغيرِ وتَنْكيلاً بها. وهكذا، نكونُ إزاءَ شخصياتٍ إيجابيةٍ تنخرطُ في شبكةٍ علائقيةٍ فيما بينَها، تنشأُ في واقعٍ سلبي، على شَفا الزلزالِ السوري، ما يحولُ دونَ أن تُؤتيَ ثمارَها، ويقطعُها قبلَ أن تبلغَ خواتيمَها المنشودة، حتى إذا ما اندلعَ الزلزال، تؤولُ إلى مصائرَ قاتمة، فَيُقتَلُ كارم بعدَ اختفائِه، ويختفي غالي دونَ العثورِ على أثَرٍ له، في إشارةٍ روائيةٍ إلى تَرُدّداتِ الزلزالِ القاتلة، المتماديةِ في الزمانِ والمكان.
خطاب حديث
وبعدُ، إذا كانَ نبيل سليمان قدِ استخدمَ في “تحوّلاتِ الإنسانِ الذهبي” حيلةً روائيةً قديمة، عرفَتْها “تحوّلاتُ الجحشِ الذهبي”، الروايةُ الأولى في التاريخ، وشكّلَ كتابُ ” كليلة ودمنة” أحدَ أبرزِ تجلّياتِها، فإنّ تعبيرَهُ عن هذهِ الحيلةِ والأحداثِ المتعالقةِ معَها يتمُّ بخطابٍ روائيٍّ حديث؛ نَقَعُ فيه على التعدّدِ الأجناسي (رواية، حكاية، أسطورة، رسالة، قصيدة، أغنية، مثل شعبي، وغيرها)، والتعدّدِ الأنماطي (سرد، وصف، حوار) والتعدّدِ الصياغي (متكلم، مخاطب، غائب)، وتعدّدِ الرواة (شريك، عليم، ما بين بين، إنسان، حمار). ونقعُ فيه على استخدامِ الهوامشِ على المتنِ الروائي ما يشي ببحثيَّةِ العمليةِ الروائية، وهوَ إجراءٌ سبقَهَ إليه جمال الغيطاني والياس فركوح ورجاء عالم وآخرون. ونَقَعُ فيه على التكسّرِ الزمني ما يُطيحُ بخطّيةِ الزمنِ وهرميّةِ الحكاية، ويَضَعُنا إزاءَ “فوضى روائيّةٍ خلاّقة” ينتقلُ فيها بينَ الأجناسِ والأنماطِ والصيغِ والأزمنةِ والأمكنة، على غيرِ هدى، وبخطواتٍ مفاجئة، ويتركُ لقارئِهِ عناءَ قراءةِ الروايةِ ومتعةَ ترميمِ الحكايةِ المتناثرةِ الأجزاء. فنبيل سليمان روائيٌّ محترفٌ يعرفُ من أينَ تُؤكَلُ كتفُ الروايةِ ولا ينفكُّ يفاجئُ قارئَهُ بالقديمِ الجديد، الممتعِ والمفيد
منقول عن النهار العربي، في 19 / 2 / 2022