قدم هاشم حنون معرضه (مدن ترابية) في قاعة حوار عام 1995 ، وكتب عنه في دليل المعرض وقتها ثلاثة من كتاب البصرة هم : القاص محمد خضير والشاعر حسين عبد اللطيف وكاتب السطور ، وقد ركز الكتّـاب الثلاثة في كتاباتهم على السمة الاختزالية في تجربة هاشم حنون ، فقد ذكر محمد خضير :(لقد اختزل هاشم حنون أشكال الفراغ في اصغر مساحة تصويرية ، كي يمّر الفيض الباطني للوحة من البؤرة الكامنة في العمق البصَري في حزمة واحدة مركـّزة … سطح اصغر ، مغبر ، خشن ، خال من الأشكال المقيدة إلى أنماط إحداثية . سكون خشن ، مرئي ، وتوزيع لبصمة استبطانية تتجمع حول نقطة شروح لحركة توافقية مسترسلة بين الجزئي والكلي … بذلك أقامت اللوحات المتكررة البرهان على إمكانية توحيد المجالات الإحداثية التعبيرية والرؤى اللونية في مجال بلاستيكي موحد) . بينما أكد حسين عبداللطيف (إن تجربة هاشم حنون تتمركز حول (إحساس) لا حول (موضوع) ذي سردية ، كانت التفاصيل مختزلة إلى حدودها القصوى في إشارات طفيفة ظليّـة أو شبحية اقتربت بعفويتها وتلقائيتها من رسوم الأطفال وطلاقة خطوطهم . وشمل هذا الزهد استعمال اللون فاقتصر التنفيذ على الاوكر الترابي بدرجاته والبني ومشتقاته لتضعيف الإحساس بالقدم … وعلى وقائع اللقى والأخاديد والآثار وعظام الموتى التي يقع الفنان على منطقته التي سيشتغل عليها ببحث (اركولوجي) فني باسطا بيده أما من خريطتها بتضاريسها ورموزها ووقائعها باختزال مكثف بعيدا عن السردية وهي المنطقة عينها التي سبق الزمن أن مدّ يده وخلّف فيها بصمات أصابعه وشواهده) . بينما اعتبرتُ معرض هاشم حنون وقتها (محاولة لاصطفاء صور من (آثار) الواقع متشاكلة مع صور مستثارة من ذاكرة معرفية ، هي ليست بالضرورة ذاكرته ، خزنت نماذج لا حصر لها من (كتابات أولى) مثلتها مختزلات صورية انفصلت عن وجودها اللغوي) .
والآن ، بعد ثماني سنوات ، هاهو هاشم حنون ، يقلب أيقوناته القديمة ، وينبش تجربته السابقة ليستعيد منها لما يعتقده يصلح للمرحلة الحاضرة من رسم !! : المخربشات وآثار الجدران والخروق والحروق والكتابات الطباعية وجنفاص المتاريس في جبهات الحروب السابقة وفي شوارع مدينتنا البصرة التي كانت تملؤها المتاريس ، وكأنه بذلك يستعيد أجواء الحرب والحزن والخراب والضياع ذاتها التي كان يمرّ بها العراق وقتها ، والتي يمرّ الآن في أجواء لا تقل عنها قسوة اليوم .
تدفع البنية التضاريسية للوحة هاشم حنون ، كغيرها من التجارب المماثلة عند الفنانين الذين يهتمون بإبراز دور السطح وهيمنة منعرجاته على اللوحة ، تدفع المتلقي من الناحية السيكولوجية إلى التعامل مع سطح اللوحة وكأنه عمل نحتي ناتئ (ريليف) ، فيؤخذ بدافع الرغبة إلى التلامس مع متعرجات اللوحة ونتوءاتها بأطراف أصابعه وبعينيه عبر تفحّص مجهري دقيق لتلك المتعرجات والأحافير التي تبدو وكأنها فعل آلة حادة في جدار جصّي ، أداة لا تنتمي لأدوات الرسم التقليدية .
يحتفظ هاشم حنون بذات البنى الهيكلية التي استمر يبني عليها لوحاته عقودا ، ونقصد بها الأقانيم المقدسة للوحة (= اقانيم الوجود المقدس) حيث يقسم اللوحة إلى (مناطق) تختلف عن بعضها بدرجة القداسة ، تماما كما بنى العراقيون معمار إناء الوركاء ألنذري ، فترتفع جثامين الشهداء والقديسين إلى الأعالي ، بينما تستقر بأدنى قاع اللوحة مخلفات الوجود الدنيوية ، وبذلك فقد عادت ثيمة (الصلب) ، وأن على استحياء إن صح التعبير ، حيث تتناثر أشباح البشر مصلوبة ومقطعة الأوصال على مساحة اللوحة العلوية .
تستعاد جينات الفن العراقي القديم وجودها في تجربة هاشم حنون ، فهو لا يستعير فقط أشكال ذلك الفن بل ويستعير بنية هيكلية لتجربة كاملة هي أيقونة المسلة حيث تنتصب اللوحة كصخرة حدود تحكي انتصارات وهزائم البشر وحوادثهم ، لوحة تقف منتصبة كشاخص قلق .
التشاكل الصوري بين شكل الصخور وألوانها وبين البشر المصلوبة
تظهر الخروق في الجنفاص استعارة من الفنان لما اختزن في ذاكرتـه من منـاظر متاريـس
لا يهدف من الاشتغال على الملمس إحداث حقل متعرجات يعينه على استدعاء الصور المختزنة في ذاكرته ، بل أن أشكال الذاكرة هي التي تقود إنشاء ذلك الحقل , فطوال سنين غربته , كان هاشم حنون يحاول تفعيل ذاكرته فكان دائم البحث الأركولوجي لمحتوياتها وما اختزن فيها من صور , وتماما كما أسس محمد خضير بنى و فضاءات مدينته بصرياثا , يحاول هاشم حنون أن يرتـّق الصورة الغائمة لها ليس بهدف الوصول إلى الكيان الفيزيائي المجرد (= الكيان العضوي) بل بهدف التعشق مع الكيان الروحي لذلك المكان (= المكان المتخيل) وهو ما يثيره نثار الموجودات المؤسسة له , فهو إذن , كغيره من الفنانين المعنيين بتأسيس رؤية مكانية ، لا يهدف إلى كتابة سيرة للمدينة بل كتابة سيرته الذاتية في المدينة , فما يهمه درجة مطابقة أجواء المكان لداخليته هو , أي لأحلامه وتخيلاته , كما يقول فاروق يوسف ، لذا نراه يعكس رؤيته فيستل من (اللحظات) القاسية للمدينة التي عايشها فيها عن قرب وشاهد ثم رسم عناصر الدمار فترسخت باعتبارها لازمة في بناء فضائها المتخيل , فلم يعد يتذكر مدينته إلا عبر لازمة معتمة يلفها السخام الذي تخلفه الحرائق والجثث والأشجار وأكياس الرمل التي اخترقتها الشظايا , لذا سيكون توكيدنا أن توصيف تجربة هاشم حنون بالتجريدية إجحاف بحقها , انه إذن فنان محيطي (بل قد يتجرأ أحدنا ويصنفه فنانا واقعيا من النمط التعبيري) , فقد كتبت مرة أن هاشم حنون ليس فنانا تجريديا بل هو فنان مختزل يتتبع اثر بيكاسو في استراتيجيته هذه ، حيث أن موجودات اللوحة المشخصة التي بنى عليها لوحاته كانت قد تركت أثرا لها لا يمكن محوه مطلقا مهما بالغ الرسام في اختزال أشكاله فمهما تشظت الأشكال فأنها تترك علامات لا تمحى , كما عنونت إحدى مقالاتي عنه .
لقد كان الجنفاص خامة أليفة عندنا , نحن العراقيين، فقد كانت تصنع منها المتاريس الرملية ، وهي هنا توفر سطحا خشنا يوفر علامات تؤسس أجواء التمزق ، أجواء معتمة تملؤها الحروق والدكنة و لون الطين وصدأ الحديد والسواد المتخلف عن الجثث والبيوت المحترقة ، هي تخوم النفس المعتمة الغامضة … حيث تكمن اشد الأماكن عتمة ، كما يؤكد باشلار ، وبذلك يستعيد هاشم واحدا من الأنماط العليا للاوعي الجمعي البشري ، هي ثيمة (المعتم ـ المضيء) ، حيث تتوفر بقايا الحروق على (علامة مرئية) لمكان حميم لنا ، فيه ذكريات أليمة ، وبذلك فهو يتوفر على قوة خفيّة ، على متناقضات داخلية تمنح ديناميكية لميتافيزيقيا بدائية . فكيف يمكن لهذا المضيء – المعتم أن يتم تجاهله فلا يرسم ، بل أن عملية رسمه هي ميزة لكل الفنانين العظام ، رمبرنت مثلا ، لكن كيف يتم وصفه؟ وكيف يمكن كتابته ؟ بل نحن نريد أن نذهب ابعد قليلا من هذا الأمر : أن نسجل هذا المضيء – المعتم، في التخوم التي تصل النفس المعتمة الغامضة وتخوم النفس المعتمة المضاءة ؟
تعود بنا الحرائق ومخلفاتها إلى مواطن الألفة , ففي أعماق الإنسان تكمن أشد الأماكن عتمة , وهي لا تسمح إلا بضياء متأرجح ، ضياء ودخان وسخام يعود بذكرياتنا إلى عصور الكهوف الأولى ، فالقلب الحساس لا يحب سوى القيم الهشة ، وهو يقترب من القيم التي تناضل ، وتجاهد ، وبالتالي يقترب من الضياء الخافت الذي يجاهد بالضد من المعتمات . ولذا تحتفظ جميع أحلامنا بالضوء الصغير ، بواقع سيكولوجي لحياة اليوم ، إنها تملك معنى ، ويمكننا القول وبكل طواعية أن لها وظيفة ، و إن بإمكانها منح سيكولوجية الوعي آلية جديدة .